لم يكن أبو عبيدة مجرد ناطق عسكري باسم كتائب القسّام، بل تحوّل إلى حالة إعلامية متكاملة، جعل من صورته الملثمة وصوته المدوّي سلاحاً نفسياً ومعنوياً في مواجهة العدو الصهيوني، ومصدراً لدعم الشعب الفلسطيني في لحظات القهر والحصار. رحيله شكّل محطة مفصلية في مسار المقاومة، إذ ارتبط اسمه بالمعارك الكبرى وخطاب الكرامة والعزّة والإيمان، ليُصبح رمزاً جامعاً يتجاوز حدود غزة ويُخلّد حضوره في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والإسلامي. استشهاده يفتح الباب أمام قراءة معمّقة لدوره الإعلامي، وكيف تحوّل صوته إلى أيقونة عالمية للمقاومة، وإلى سلاح موازٍ للبندقية.
المُلثم.. الصورة التي صنعت الرمز
منذ ظهوره الأول، حرص أبو عبيدة على أن يبقى مُلثماً، يخفي ملامحه ويكشف فقط صوته وكوفيته الحمراء. هذه الصورة لم تكن مجرد خيار أمني، بل كانت جزءاً من صناعة الرمز. الملثم هنا ليس شخصاً عادياً، بل تجسيداً لجماعة كاملة، لكل مقاوم مجهول يقاتل على الأرض. بهذا المعنى، أبو عبيدة لم يكن فرداً، بل صورة جماعية، أيقونة تختصر آلاف المقاومين الذين لا يعرفهم الناس بأسمائهم، لكنهم يرونهم في هذا الوجه المخفي. هذه الاستراتيجية جعلت منه رمزاً يتجاوز الفرد، وأعطت لصورته قوة مضاعفة، لأنها لا ترتبط بملامح شخصية، بل بفكرة المقاومة نفسها.
الصورة الإعلامية كسلاح نفسي
العدو الصهيوني كان يدرك أنّ ظهور أبي عبيدة الملثم يُشكّل جزءاً من المعركة النفسية. كل خطاب كان يزرع الرعب في صفوف الجنود والمستوطنين، لأنه كان يحمل نبرة تحدٍّ ووعيد، ويؤكد أنّ المقاومة قادرة على ضرب العمق الصهيوني. الإعلام العبري نفسه كان يترجم خطبه وينشرها، رغم محاولاته الرسمية تجاهلها، لأنه كان يدرك أنّها تؤثر في الرأي العام الصهيوني. بهذا المعنى، صورة أبي عبيدة لم تكن مجرد أداة دعائية، بل سلاح نفسي يوازي الصواريخ والعمليات العسكرية، ويُشكّل جزءاً من استراتيجية المقاومة في مواجهة العدو.
دعم الشعب الفلسطيني عبر الصورة والبيانات
بالنسبة للشعب الفلسطيني، كان أبو عبيدة أكثر من مجرد ناطق عسكري. ظهوره الملثم كان يبعث الأمل في لحظات الظلام، ويمنح الناس شعوراً بأنّ المقاومة بخير، وأنّها قادرة على الردّ. بياناته كانت تُقرأ كرسائل تعبئة، تُحفّز الجماهير على الصمود، وتؤكد أنّ المقاومة ليست مجرد قوة عسكرية، بل مشروع جماعي يحمي الشعب. في كل مرة كان يظهر، كان الفلسطينيون يشعرون أنّ صوتهم وصل، وأنّ معاناتهم تجد من يُعبّر عنها. بهذا المعنى، أبو عبيدة لعب دوراً مزدوجاً: مواجهة العدو إعلامياً، ودعم الشعب نفسياً ومعنوياً عبر صورته وبياناته.
إدارة الظهور.. النُدرة كاستراتيجية إعلامية
أحد أسرار قوة أبو عبيدة كان في ندرة ظهوره. لم يكن يطلّ بشكل يومي أو عشوائي، بل كان ظهوره مرتبطاً بلحظات مفصلية، ما جعل من كل خطاب حدثاً منتظراً. هذه النُدرة أعطت لصورته قيمة مضاعفة، لأنّ الناس كانوا يربطونها بالمعارك الكبرى وبالرسائل المصيرية. هذا الأسلوب جعل من ظهوره جزءاً من إدارة المعركة الإعلامية، حيث تُستخدم الصورة والبيان كأدوات تعبئة في اللحظة المناسبة، لا كخطاب يومي يُستهلك. بهذا المعنى، أبو عبيدة كان يدير صورته بعناية، ليُحافظ على فاعليتها ومعناها.
الأيقونة العالمية
كوفيته الحمراء، لِثامه الدائم، وصوته القوي، كلها عناصر شكّلت أيقونة إعلامية تجاوزت حدود فلسطين. كثيرون في العالم العربي والإسلامي رأوا فيه صورة للمقاوم الذي لا يُظهر وجهه، لكنه يُظهر عزيمته وإيمانه. هذه الأيقونة أصبحت جزءاً من الذاكرة البصرية والسمعية للمقاومة، ورمزاً لكل من يرى في فلسطين قضية تحرر عالمية. بهذا المعنى، أبو عبيدة لم يكن مجرد ناطق باسم كتائب القسام، بل رمزاً عالمياً للمقاومة، وصوتاً يتردد في وجدان كل من يؤمن بالحرية والكرامة.
الاستشهاد والمرحلة الجديدة
استشهاد أبي عبيدة يفتح مرحلة جديدة في مسار المقاومة. رحيله لا يعني نهاية رمزيته، بل بداية لتكريسها. فالصوت الملثم الذي شكّل أيقونة إعلامية سيبقى جزءاً من الوعي الجماهيري، وسيظلّ مصدر إلهام للمقاومين والجماهير. استشهاده يعكس طبيعة الصراع، حيث الرموز تُستهدف لأنها تشكّل خطراً على العدو، لكن هذا الاستهداف لا يُنهي تأثيرها، بل يضاعفه. بهذا المعنى، أبو عبيدة سيظلّ حاضراً في كل مواجهة، ليس كشخص، بل كرمز وصوت وإرث إعلامي ـ مقاوم.
ختاماً أبو عبيدة لم يكن مجرد ناطق عسكري باسم كتائب القسام، بل كان ظاهرة إعلامية ـ مقاومة، جسّدت صوت المقاومة الفلسطينية في وجه العدو، وأصبحت أيقونة في الوعي الجمعي العربي والإسلامي. خطابه الذي تجاوز السياسة التقليدية، حضوره الملثم، وندرة ظهوره، كلها عناصر جعلت منه رمزاً فريداً. استشهاده لا يُنهي دوره، بل يكرّسه كجزء من الذاكرة الجماعية، وكصوت سيظلّ يتردد في وجدان المقاومين. في النهاية، يمكن القول إنّ أبو عبيدة مثّل نموذجاً فريداً للقائد الإعلامي المقاوم، الذي جعل من صوته سلاحاً، ومن حضوره رمزاً، ومن استشهاده محطة لتجديد العزيمة والإيمان في مواجهة العدو.