أولويات وزارة الخارجية في الحكومة الرابعة عشرة

جهود متزامنة لرفع العقوبات وتعزيز الصمود الداخلي أمام الحرب الاقتصادية

الوفاق/ العقوبات؛ الواقع المُر الذي فُرض على الشعب الإيراني على مدى أربعة عقود مضت، قد غيّر العديد من المعادلات، وأثّر بشكل ملموس على حياة ومعيشة الشعب الإيراني. إن رفع هذا التأثير الثقيل، رغم تعقيداته غير القابلة للإنكار، لم يكن ممكناً بأداة واحدة فقط، ويتطلب تحييد آثاره الانتقال من نظرة أحادية البُعد إلى رؤية أعمق.

لقد حولت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، على مدى أكثر من أربعة عقود، تدفق التجارة والاقتصاد الحر للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بحجج وادّعاءات مختلفة، إلى سجن من القوانين والقواعد المعقدة والمرهقة، وأطلقت عليه اسم “العقوبات الاقتصادية”. عقوبات تُتابع أحياناً بأقصى درجة حسب الأحداث التاريخية ووجهات نظر الحكومات المختلفة التي تولت السلطة في هذه الدول، وأحياناً أخرى بتساهل.

 

وفي خضم ذلك، لا تعتبر طهران هذه العقوبات عادلة أو منصفة فحسب، بل تثير شكوكاً جدية حول شرعيتها أيضاً. لقد أثرت هذه العقوبات بشكل ملموس على الظروف الاقتصادية وتنمية البلاد، وأبطأت دون أي إنكار مسيرة تقدم البلاد. ومع ذلك، فإن السؤال الذي طرح على مدار جميع بنود العقوبات في هذه السنوات، والذي حاولت كل حكومة الإجابة عليه بطريقتها، هو: ماذا يجب فعله لرفع هذه العقوبات أو التخفيف من آثارها؟

 

رواية الجهود السياسية لرفع العقوبات الاقتصادية

 

تولّي الحكومة الرابعة عشرة السلطة والأحداث التي مرّت بها هذه الحكومة خلال عام وعدة أشهر، كانت واحدة من أكثر الفترات تميزاً في العقود الأربعة الأخيرة. ووجدت الحكومة الرابعة عشرة نفسها، قبل أن يتسنى لها الفرصة لتثبيت أفكارها ونهجها، مضطرة إلى الوقوع في سيل من التحديات المتنوعة، وإلى الردّ بالضرورة على كل منها. كان أحد أهم الوعود الانتخابية التي قطعها رئيس الجمهورية الدكتور مسعود بزشكيان للشعب هو تخفيف عبء العقوبات الاقتصادية وتثبيت الحد الأدنى من المعيشة للناس.

 

ولتحقيق هذا الوعد، تمّ اختيار “عباس عراقجي”، أحد الدبلوماسيين البارزين في هذا المجال، وزيراً للخارجية. إن العقوبات وتبعاتها كانت أكثر وضوحاً وإحساساً لدبلوماسي واجه هذا الواقع مباشرة منذ عام 2013 وسلك طريق الاتفاق النووي لرفعها، مقارنة بأي شخص أو مجموعة أخرى. ومن هذا المنطلق، ركّز السلك الدبلوماسي في الحكومة الرابعة عشرة منذ البداية كل طاقته أولاً على رفع العقوبات ثم على تحييدها.

 

كان عراقجي، خلال السنوات الثماني لحكومة “التدبير والأمل”، الشخصية الثانية في المفاوضات التي كانت تسعى إلى رفع العقوبات عبر الحوار، واستمر بهذا النهج في الحكومة الرابعة عشرة وبكل قوة حتى مارس 2025. غير أن الوقائع في الميدان غيّرتها مطالب الغرب الزائدة والمستمرة، خاصة منذ بداية رئاسة “دونالد ترامب”. ومع ذلك، جلس الفريق الدبلوماسي الإيراني خمس مرات على طاولة المفاوضات مع المبعوث الخاص الأمريكي بهدف رئيسي ونهائي وعقلاني يتمثل في رفع العقوبات. إلا أن قصف طهران من قبل الكيان الصهيوني وأمريكا أغلق هذا المسار الدبلوماسي. استُهدفت المنشآت النووية السلمية الخاضعة لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية في إيران، واستُشهد العديد من القادة العسكريين رفيعي المستوى في إيران وأكثر من ألف شخص من المدنيين الأبرياء.

 

المطالب الزائدة والمفرطة للغرب

 

تعطلت الوصول إلى المنشآت؛ لكن موضوع رفع العقوبات وإزالة هذا العبء الثقيل عن كاهل اقتصاد إيران، دفع السلك الدبلوماسي الإيراني إلى منح الدبلوماسية فرصة أخرى في محطات مثل القاهرة ونيويورك، غير أن إصرار الطرف المقابل على مطالب مفرطة مثل عدم التخصيب أو مدى صواريخ إيران، أفشل الجهود الرامية إلى رفع العقوبات. كما أن تفعيل آليات الضغط مثل “سناب باك” أوصل طهران إلى اليقين بأن حسن النية المبذولة في سلوكها وأدائها لا تُقابل بترحيب من الغرب في المرحلة الحالية، ويبدو أن المطالب ستزداد في كل لحظة.

 

وفي وصف ما يواجهه السلك الدبلوماسي هذه الأيام، يُعدّ هذا الجزء من كلام عراقجي جديراً بالتأمل: إن “وزارة الخارجية، على مدى كل هذه السنوات، حتى في أكثر الفترات تعقيداً وتوتراً، لم تغفل عن هذه المهمة الأساسية؛ لكن يجب القول بصراحة إن رفع العقوبات ممكن فقط من خلال مفاوضات حقيقية وعادلة وشريفة؛ مفاوضات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على أساس القوة والتهديد والمطالب المفرطة”.

 

الحقيقة هي أن أمريكا لا تريد من هذه العملية حواراً، بل كتابة إملاء خالٍ من الأخطاء، وتفسر الدبلوماسية ليس كموضوع لحفظ مصالح الطرفين، بل كمفهوم لزيادة مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني. وطهران غير مستعدة للتخلي عن حقها القانوني في التخصيب وأداة دفاعها أمام الكيان الصهيوني. لذلك، توقفت المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة لأسباب واضحة، وكان السلك الدبلوماسي الإيراني في هذا التوقف منفذاً للسياسات الرسمية والمعقولة للبلاد، وسعى لاستخدام كل طريق علني أو سري للوصول إلى حل منطقي.

 

الفعل النشط بدلاً عن الانتظار السلبي

 

إن طبيعة العقوبات المعقدة التي فرضها الغرب، خاصة أمريكا على إيران، وما يتبعها من بطء شديد في أي رفع محتمل لهذه العقوبات من جهة، والإخلالات المتكررة بالتعهدات السابقة من جهة أخرى، جعل موضوع تحييد العقوبات يُدرج في جدول أعمال المسؤولين الإيرانيين منذ السنوات الأولى لفرض العقوبات. في هذه السياسة، يُبنى أساس مواجهة العقوبات ليس على تسليم جميع الأوراق إلى المفاوضات، بل على تعزيز القدرات الداخلية والإقليمية، وقد تقرر أن تقلل إيران من ضغط هذه العقوبات بكل طريق ممكن ومعقول.

 

تجلى جزء من هذه السياسة في إنشاء وتثبيت وتوسيع العلاقات مع الجيران ودول المنطقة. تعتقد طهران أن العلاقات، خاصة في المجال الاقتصادي، مع الدول المجاورة يمكن أن ترفع عبئاً كبيراً عن كاهل اقتصاد البلاد حتى مع وجود عقوبات محددة، وقد أظهر حجم التبادلات في السنوات الأخيرة مع الجيران ودول المنطقة هذا الأمر إلى حد كبير. كما كان الانضمام إلى الاتفاقيات الإقليمية جزءاً آخر من سياسة طهران لتحييد عبء العقوبات.

 

وفي النهاية، توسيع العلاقات مع القوى المستقلة مثل الصين وروسيا والهند كان طريقاً آخر لتقليل تأثيرات العقوبات. ووفقاً للإحصاءات المتوفرة، كانت هذه سياسة منطقية نسبياً ومثمرة بالطبع.

 

تحييد العقوبات بـ«دبلوماسية المحافظات»

 

إن تحييد العقوبات داخل حدود إيران يُعدّ جزءاً آخر من هذه السياسة، وهو أهمها بالطبع، وقد أولت الحكومة الرابعة عشرة اهتماماً خاصاً به منذ بداية توليها المهام. إن أفكاراً مثل «دبلوماسية المحافظات» ومتابعتها الخاصة من قبل وزير الخارجية تُعدّ من أهم الخطوات التنفيذية لهذه السياسة في محافظات البلاد، خاصة المدن الحدودية؛ حيث يعتقد عراقجي أن عقوبات أمريكا لا يمكنها أن تؤثر بشكل ملحوظ على التفاعلات الحدودية بين المدن المجاورة لإيران. وقد عقدت وزارة الخارجية، في إطار تنفيذ هذه الفكرة، خلال الأشهر الأخيرة اجتماعين إقليميين لـ«دبلوماسية المحافظات» وعدة اجتماعات في المحافظات ذات القدرات، كان أحدثها في أصفهان.

 

منذ عقدين على الأقل، كانت الأولوية الأولى والهدف الرئيسي لوزارات الخارجية في الحكومات المتعاقبة هو موضوع رفع العقوبات، وإلى جانبه، تم صياغة تحييد العقوبات داخلياً كخطة بديلة بالضبط لمثل هذه الفترات؛ فترات لا يرضى فيها الغرب إلا بضعف إيران، ويجب ألّا يُفسر عدم الاستسلام لهذه المطالب بمعنى الوقوف على الهامش والانتظار السلبي؛ خاصة في الوقت الذي تكون فيه السلاسل المغلقة على قدم الاقتصاد الضعيف لإيران ليست فقط عقوبات أمريكا، بل إن بعضها صناعة داخلية ويمكن فتحه من الداخل.

 

مسارات وأسواق جديدة للتجارة والتفاعل الاقتصادي

 

إن الواقع الاقتصادي لإيران، دون أي مبالغة، مشبع بأنواع القوانين البيروقراطية القديمة، وبعضها يتعلق بالتهريب والريع، والفوضى وعدم الانضباط النقدي. ورغم أن العقوبات تُفاقم هذه الظروف، إلا أن هذه الظروف ليست نتيجة العقوبات فقط. لهذا السبب بالذات، يؤكد عراقجي أن المنتجين والتجار والمقاولين، في لقاءاتهم مع وزير الخارجية، يطالبون بإلحاح بفك هذه السلاسل عن قدم الاقتصاد.

 

وقد أشار وزير الخارجية، في تقريره عن زيارته إلى أصفهان، مع التأكيد على استمرار جهود وزارة الخارجية لرفع العقوبات، إلى ضرورة تحييد تبعات هذه الحرب الاقتصادية أيضاً، وكتب: إن “العقوبات أجبرتنا على التفكير بشكل أكبر، ورؤية الخيارات بشكل أكثر تنوعاً، والعمل بمزيد من المقاومة؛ والتحرك نحو الابتعاد عن الاقتصاد أحادي المحور النفطي، وأخذ الصادرات غير النفطية على محمل الجد، وتحديد أسواق جديدة، وإيجاد مسارات جديدة للتجارة والتفاعل الاقتصادي. من قلب هذه الضغوط بالذات، تشكلت استقلالية ونضج الصناعات المختلفة في البلاد -خاصة الصناعات الدفاعية والصاروخية التي كانت حامية أمن هذا الوطن في اللحظات الحساسة- وتسارعت التقدمات العلمية والتكنولوجية”.

 

إن إنكار تأثير العقوبات بعيد عن العقلانية والإنصاف بقدر ما هو الانفعال أمام هذا الواقع. ويبدو أن وزارة الخارجية، من خلال تركيزها على «دبلوماسية المحافظات»، وحضورها بين رواد الأعمال والتجار والصناعيين، وكذلك سعيها لفك السلاسل المشار إليها؛ قد حاولت قدر استطاعتها في المرحلة الحالية تفضيل الحركة في عدة مجالات على الوقوف والمشاهدة، دون أن تنكر مرارة وثقل الحياة في ظل العقوبات.

 

المصدر: الوفاق