بعمقها العروبي والمقاوم حضرت سورية القمّة العربيّة المعقودة في جدّة في الـ19 من أيار الماضي، بين فارقين يظهران حالة التخبّط التي عاشتها العرب نتاج القراءة الخاطئة لما حصل لسورية وقد لا تكون خاطئة في مقدّماتها بل باستشرافها المنسوج غربياً للنتائج التي كان بإمكانها أن تتحقق فيما لو نجح المخطط الغربي بأداةٍ تنفيذيّة عربيّة. الفارق الأول: تجميد مقعد سورية في الجامعة بلا إجماع عربي، والثاني: عودة سورية بالإجماع، والمفصل فيما بينهما يتمثّل بين ما هو كائن وبين ما سيكون بعد المتغيّرات التي ينتظر كِلا الطرفين السوري والعربي اختبار نتائجها.
تاريخياً، لم يستطع العرب الانصهار ضمن نظام إقليميّ واحد يأخذ التركيبة الكونفيدرالية (الاتحاد الاستقلالي أو التعاقدي) كبرنامج عمل في ضوء المقترح المقدّم في مطلع تأسيس الجامعة عام 1945، والذي يمكّن أعضاء الجامعة من توحيد سياستهم الخارجية ضد المخاطر المشتركة، ويحافظ على استقلال كل دولة وسيادتها ويحقق الأهداف المشتركة لها ضمن الخصائص المتصف فيها، ولعلّ في السلوك الكويتي قبيل عقد القمة تدليل على عدم رغبة العرب في القفز كجسم واحد في العالم المتشكّل.
تأتّت أهمية القمّة من كونها بنيت على مقدّمات سبقتها دعمت الحضور السوري فيها سواء من خلال الدور الجزائري الفاعل أو السعودي الملموس في الضغط على بقية الأطراف في قبول الحضور على مضض، والأمر الآخر المُناخ الذي عقدت في ظلّه والذي قرأته سورية ضمن رؤية داعية لإعادة ترتيب الشؤون الداخلية للعرب توازياً مع التبدّلات الدولية الحاصلة بفرصتها المُقابلة للتهديد، هذا الترتيب الغير ممكن التحقيق ما لم تستدير الدول العربية نحو القوى الصاعدة في التبدّل المذكور الشاغل لمقاعد الشغور الأميركي في العديد من الملفات ومن ضمنها الانحدار في منطقة غرب آسيا، المتركّز في السياسة الصينية الشرق أوسطية كمنافس للدور الأميركي الذي دخل مرحلة المفاوضة “بلبوسٍ عربيّ” إن صحّ التوصيف. ترى سورية أنه لا بد من السير باتساقٍ مع التحوّل الإقليمي والدّولي، عبر البناء على نتائج القمة ضمن مسار الحل السياسي الذي يمثل اليوم منفذ الخروج الأساسي من الحرب على سورية، عبر الدفع بموازاة وتوفيق التوافق العربي – العربي مع المسار الدولي الذي تلعب فيه السعودية اليوم دور الوسيط على قاعدة سياسة “خطوة مقابل خطوة”.عبر دمج الأمم المتحدة التي رأت بعدم إشراكها في منصة “أسـتانا” تعطيلاً للدفع بعملية الحل السياسي، وإصرار السعودية على تطبيق روح القرار “2254”
وكان وزير الخارجية السوري فيصل المقداد قد قال بأن سورية ستطبّق القرار بما يهمّها. أمّا عن كيفية وطبيعة هذا الحل يبدو التقدير مبكراً نسبياً ولا سيما في ظلال تغيّرات ترتبط بالتواصل السوري – التركي ضمن مشتركات متقاطعة في مضمونها ومتباينة في أهدافها. وينظر السّوريون لنتائج القمة اقتصادياً، وهم قد راقبوها بتفاؤلٍ حَذر، فحضورهم فيها الذي لاقى ترحيباً واسعاً لم يكن عادياً أو بروتوكولياً بل وضع برنامجاً رؤيوياً داعٍ للنظر في علّة ومرض الجسد العربيّ وضرورة توافر الرغبة الحقيقيّة لإعادة التموضع في وجه الأخطار المحدقة، لكن الملف الاقتصادي محكومٌ بعقبات عديدة من ضمنها ما تعلّقه أميركا في الحل السياسي وتستخدمه كورقة مفاوضة أي العقوبات، فالأخيرة تعكر البيئة الاستثمارية السورية وتمنع الشركات من القدوم والشروع في العمل، ذلك أنَّ مفاعيل التعليق “لمساعدات إنسانية” ستنتهي في تموز من العام الحالي وقد تحافظ على نفس وتيرة التأثير دون أن تتعدى مساعدات عبر الحدود، وهنا يكمن العائق فدون تفعيل السوق ورفع مستوى التصدير والاستيراد لن يتحسّن الوضع المعيشي ولن تتوافر مقوّمات النهوض.
في الجهة المقابلة، العين على التركي الذي لم يضع بعد، أو وضع ولم يحسم بعد، الاصطفاف الجديد أو السياسة الخارجية ضمن الرؤية العامة لجانب الفواعل الداعمة كروسيا وإيران والسعودية والإمارات، وضمن مسألة خارطة الطريق المشتركة مع دمشق والتي ستتبين ملامحها “الإنسانية” و “الاقتصادية” من خلال افتتاح معبر باب الهوى، عبر المسوّدة التي ستعدها لجنة أمنية وعسكرية في الاجتماع الرباعي القادم وربما نشهد حضوراً فاعلاً عربياً يلعب دوراً في إيجاد مخرج منفذه إدلب، مقابل استمرار دمشق في مرور المساعدات عبر المعابر للشمال، وطبيعة رؤيتها المنفتحة “وفق ما عبّر السعودي” للامركزية الإدارية بما لا يُخل بتركيبة جسم الدولة التي تؤكد في كل حلّ على سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها.
لا شك أن كلمة سورية في الجامعة هي خارطة طريق عمل عربي مشترك مرهون برغبة الدول العربية التي تدرس وتقرأ منهاج التبدّل بعين الاستقلالية والوصول قدر الإمكان إلى حالة الاستقرار ولو الشائك ضمن التنافس الناعم وتغيّر وسائل التوازن مع بعضها البعض، فقد آن الأوان لأن تخرج الدول العربية التي لم تتخط دور الأداة التنفيذية للسياسة الأميركية في المنطقة من عباءة الأميركي وتتطلّع لبناء جسم واحد بعقل واحد يستفيد ويدرّس ويدرْس نتائج التجربة السورية التي أسست لما هم عليه الآن من تغيّر وتبدّل واعتراف ضمني وصريح بأن ضرورة خروج سورية من أزمتها ما هو إلا الحاصل الموضوعي لانتصارها، وإجماعٌ يتعدّى بأهميته الغياب الحاضر سورياً عن الجامعة قبل 12 عاماً.