تعدّ “القصص السيريّة” من الأنواع السرديّة التي تجسّد التعالق بين الرمز والاستعارة في أدب الأطفال، والتي تسرد حياة بعض الشخصيّات المهمّة، سواء كانت شخصيّات تاريخيّة أو سياسيّة أو فنّيّة. يهدف هذا النوع من القصص إلى تنمية ذاكرة الأطفال، ومساعدتهم على التعرّف إلى تلك الشخصيّات عن قرب، من خلال توظيف لغة مبسّطة ومُعَبَّر عنها من جهة، وتمثيلها من خلال بعض الرسومات الدالّة عليها من جهة أخرى.
شاع هذا النوع من القصص في السنوات الأخيرة في أدب الطفولة العالميّ، وتُعَدّ الكاتبة الأمريكيّة جانيت وينتر من أهمّ كتّابه، فقد خصّصت عدداً مهمّاً من أعمالها لإعادة سرد حياة بعض الشخصيّات التي كان لها دور أساسيّ وبصمة عميقة في هذا المجال. من أهمّ تلك الشخصيّات، الناشطة الكينيّة “وانجاري ماثاي” الحاصلة على “جائزة نوبل للسلام” لدورها في الحفاظ على البيئة.
واجهت “ماثاي” الكثير من المصاعب بسبب دعواتها المستمرّة لحماية البيئة، والحثّ على زراعة الأشجار بهدف التنمية والرقيّ بمجتمعها، فكان لتضحياتها ومواقفها الإنسانيّة دور في جعلها “رمزاً” إنسانيّاً مهمّاً في إحلال السلام والمحبّة بين الآخرين؛ لتستمدّ الكاتبة وينتر من تلك الحياة قصّتها التي كانت بعنوان “وانجاري وأشجار السلام” (2017)، والتي تُعْتبَر من القصص الرائعة في لغتها، وأسلوبها التعبيريّ المتضمّن الاستعارات والرموز الإيحائيّة التي تشير إلى معنى “السلام” و “المحبّة”، وتعزّز في ذات المتلقّي أهمّيّة البيئة، وقيمة الحفاظ عليها. كذلك يمكن للقارئ أن يستدلّ على تلك المعاني من خلال النصّ المكتوب أوّلاً، ثمّ من خلال الرسومات المعبّرة عنها، لتكون وانجاري استعارة رمزيّة لتلك المعاني كلّها.
روّاد الفنّ التشكيليّ
أمّا في أدب الطفولة العربي، فقد دعمت “مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعي” في فلسطين مشروع سرد حياة روّاد الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ قصصيّاً. ومن القصص التي أُنْجِزت: قصّة “الفتاة الليلكيّة” (2021) لإبتسام بركات، وهي قصّة مستلهمة من حياة الفنّانة تمام الأكحل، زوجة الفنّان إسماعيل شمّوط، وقد فازت هذه القصّة بـ “جائزة الشيخ زايد للكتاب” عام 2020. أيضاً قصّة “سماء سامية الملوّنة” (2019) لهدى الشوا، وهي قصّة مستلهمة من رحلة الفنّانة سامية حلبي، وقصّة “جداريّة الحلّاج العجيبة” لرنا عناني ومحمّد معطي، وهي قصّة مستلهمة من رحلة الفنّان مصطفى الحلّاج.
استعارة هذه الأسماء تعزّز من “القيمة المعرفيّة” لدى الأطفال، بتعرُّف حياة روّاد الفنّ التشكيليّ، وتأمّل بعض إنجازاتهم، من خلال محاكاة بعض أعمالهم الفنّيّة، وتوصيف العناصر المؤسِّسة لإبداعهم الفنّيّ. لو توقّفنا أمام قصّة “جداريّة الحلّاج العجيبة” (2019)، على سبيل المثال، لوجدنا “مفردات استعاريّة” تربط المتلقّي بأهمّ أعمال مصطفى الحلّاج، وذلك من خلال “تشخيص” الجداريّة نفسها، وما تحتويه من عناصر أخرى، مع جعل شخصيّة الرسّام نفسه أحد محاورها الرئيسيّة، ليكون بذلك عامل “التفاعل الإستعاري” واضحاً داخل القصّة كلّها.
يمكننا أن نعتبر هذه الشخصيّات استعارات لها معانيها، بالاعتماد على أنّ الشخصيّة نفسها هي المشبَّه، والمعنى الناتج عن سرد حياتها هو المشبَّه به، على اعتبار أنّ المشبَّه يمثّل الدالّ والمشبَّه به هو المدلول، وفق رأي بير جينو، الذي اعتبر الدال هو “الإسم”، والمدلول هو “المعنى”.
يستند جينو في ذلك على التحليلات التي قام بها في كتابه “علم الدلالة”، حيث يرى أنّ التغيّرات أو التحوّلات داخل النصّ تُقْسَم إلى قسمين: تحوّلات الاسم، وتحوّلات المعنى؛ أمّا تحوّلات الاسم فتأتي على صورتين: التماثل بين المعاني أو التجاور بينها، وتحوّلات المعنى تأتي على صورتين أيضاً: التماثل بين الأسماء أو التجاور بينها.
تعزّز هذه الإنعكاسات من الترابط بين الدالّ والمدلول داخل النصّ الأدبيّ، وهي العلاقة نفسها التي تجمع بين المشبَّه والمشبَّه به في العبارة الإستعاريّة.
قصّة “الفتاة الليلكيّة”… تمام الأكحل
تُصَنَّف قصّة “الفتاة الليلكيّة” من القصص المستوحاة من سيرة المبدعين؛ فهي عبارة عن سرد استعاريّ لشخصيّة الفنّانة الفلسطينيّة تمام الأكحل. تتحدّث القصّة، بشكل متخيّل، عن ثنائيّة المكان والفنّان، ودور الأوّل في تجسيد معالم الإبداع عند الثاني؛ فالمكان بالنسبة إلى الأكحل هو المكوّن الرئيسيّ لمعظم أعمالها الفنّيّة.
المقصود بالمكان هنا، مدينة يافا، المدينة الساحليّة الجميلة، التي أضفى سحرها وروعة مكوّناتها جزءاً من الإبداع الفنّيّ على اللوحات التشكيليّة التي رسمتها الفنّانة الفلسطينيّة.
تتجسّد معالم الاستعارة في القصّة من العنوان نفسه، “الفتاة الليلكيّة”، حيث شبّهت الكاتبة ابتسام بركات الفتاة تمام الأكحل باللون الليليكيّ، الذي يُعْتبَر من الألوان التكوينيّة في لوحاتها؛ لتبدأ بعد ذلك مظاهر التعبير الاستعاريّ بأنواعه، فنجد الإستعارة الأنطولوجيّة الممثّلة بــ “أنسنة الأشياء”، وجعلها تعبّر عمّا ترغب الفنّانة نفسها في التعبير عنه، فنقرأ، على سبيل المثال: “طرقتْ على الباب، اهتزّت النوافذ، وسرتْ في البيت رعشة. الجدران قالتْ للسقف، المطبخ قال لغرفة النوم، والطريق قال للحديقة: حضرت تمامُ بعد غياب أعوام!”.
فاهتزاز النوافذ، وإصابة البيت برعشة، والخطابات القوليّة على لسان الجدران والمطبخ وغرفة النوم والحديقة، كلّها “تعبيرات استعاريّة” يُراد بها توطيد فكرة “الحنين” و “الإشتياق” إلى المكان. بالتالي، فإنّ تشخيص هذه “الأشياء” تقريب للدلالة، وتفسير مباشر للمعنى المقصود من كتابة هذه القصّة، عدا أنّها مفردات منسجمة وعقل القارئ؛ الطفل.
المكان المفقود
كما استعانت مؤلّفة القصّة بالإستعارة الإتّجاهيّة للتعبير عن “موضوع القصّة”، ومثال على ذلك، قولها: “نزلت دمعة خضراء من عين تمام، ثمّ دمعة برتقاليّة، ثمّ دمعة زرقاء، نزلت من عين تمام دمعات بكلّ الألوان المائيّة”.
في هذا الخطاب الوصفيّ تتمثّل استعارة “الحزن والأسى”؛ فنزول الدموع نتيجة حدث قبليّ مؤلم عبارة عن تعبير صارخ عن ذلك الألم وتلك القسوة، وما تشبيه الألوان بالدموع، على سبيل الاستعارة المَكْنِيَّة، إلّا تعبير عن دور الفنّ التشكيلي الذي تقوم به الفنّانة تمام الأكحل في “تمثيل” (Representation) الشعور الباطني الذي يخلد فيها؛ ذلك الشعور المتمثّل بالحرقة التي أصابتها بعد أن وجدت “غرباء” يسكنون بيتها وبيت أجدادها، في المدينة الغائبة، يافا.
في موضع آخر من القصّة تعبير استعاريّ آخر، حيث تشبّه الكاتبات دموع تمام الأكحل “المشبَّه” بعد وجود الغرباء في منزلها بريشة الرسم “المشبَّه به المحذوف”، ويتوسّع التعبير الإستعاري، وينتقل من الإستعارة المكنيّة إلى الإستعارة الأنطولوجيّة، القائمة على “تشخيص” الألوان، وجعلها تقوم بفعل “الهرب”، وتلحق الفنّانة بشكل سريع جدّاً، وهذا التركيب الإستعاري يهدف إلى أمرين اثنين: الأوّل: توطيد علاقة الدموع بالألوان، في إشارة إلى أنّ الرسم هو الوسيلة التي اتّكأت عليها تمام الأكحل لوصف حال مدينتها وبلدها، بعد فعل “التهجير”. في حين أنّ الثاني تعبير مجازيّ لما سيكون، وما سيحلّ بالبيت بعد أن سكنه الغرباء، فالقول: “صارت ألوان البيت القديم تهرب منه، وتلحق بها، مثل ريح خفيفة تحمل أوراقاً خريفيّة…”، تعبير استعاري إشاري يمكن تأويله كتعبير وصفيّ لخراب البيت بعد إخراج سكّانه الأصليّين منه، وما فعل الهروب والإلتحاق وحمل الأوراق الخريفيّة، إلّا “أفعال رمزيّة” تشير إلى الخراب، والبحث عن الأمان، بعد حرب دامية.
حسني مليطات
أكاديميّ ومترجم فلسطيني