كان الملتقى قرَّة عينه ودرَّة تاجه وإنجازه الأكبر، جعله مساحةً احتضنت الجميع ممن يلتقون أو يختلفون معه في قناعاته الفكرية، ولم تشكل صفته الدينيَّة عائقاً أمام ذلك، فهو الذي عُرِفَ بمرونته وسماحته وانفتاحه على الجميع. وقد استطاع بفضل شخصيّته تلك، الحفاظ على حبل الودّ قائماً مع الكثير من الأدباء والشعراء العرب في زمن شيطنة المقاومة وأهلها عربيّاً، ولم يحوّل الشيخ ملتقاه إلى امبراطورية خاصَّة يستخدمها في تعزيز حضوره الشخصي والأدبي، بل وضع نفسه في خدمة الملتقى، ووضع الملتقى في خدمة الشباب من أصحاب المواهب الحقيقيَّة.
بعد غياب فرضه رحيل الشيخ وانتشار فيروس كورونا واستفحال الأزمة الاقتصاديَّة، يعود «الملتقى» إلى واجهة المشهد الثقافي اللبناني، مع انطلاقة متجدّدة يواكبها برنامج عمل متنوّع يشمل: إعادة إطلاق المهرجانات الشعريَّة في مناسبات محدَّدة، إعادة إطلاق «لقاء الأربعاء الشعري»، تكريم المبدعين، ورعاية تواقيع نتاجهم الأدبي وخصوصاً الشباب منهم، إقامة المعرض السنوي حيث تُعرض مؤلفات أعضاء الملتقى وروّاده مع إقامة أنشطة على ضفاف المعرض، استعادة الأمسية الأدبيَّة والشعريَّة الشهريَّة في بيروت والمناطق بمشاركة شعراء من لبنان والخارج، على أن تستضيف كل أمسية واحداً من شعراء الجيل الجديد، استعادة السهرة النقديَّة الشعريَّة (حلقة النقد) التي تستهدف أيضاً الشعراء والأدباء من الجيل الجديد مع استعراض نتاجهم ووضعه على المحكّ النقدي، إعداد دورات متخصّصة في فنون الكتابة، إقامة مؤتمر سنوي للشعر المقاوم في لبنان، إنشاء جائزة أدبيَّة سنويَّة على مستوى العالم العربي، تأسيس «رابطة أدباء المقاومة»، ترتيب مشاركات للشعراء اللبنانيين في لبنان والخارج.
الانطلاقة المتجددة تزامنت مع افتتاح المركز الجديد للملتقى وقاعة الشيخ فضل مخدّر في محلة بئر حسن (خلف جامعة المعارف، مبنى الابتسام، طابق ثالث)، ضمن احتفال أقيم برعاية وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى وحضره عدد كبير من الأدباء والشعراء والمهتمّين. قدّم الاحتفال الإعلامي والأديب روني ألفا، تخللته كلمة للنائب والشاعر إيهاب حمادة باسم «الملتقى الثقافي اللبناني» أكَّد فيها على الالتزام برؤية ورسالة الملتقى مستعرضاً برنامج عمله الجديد.
كما كانت كلمة لأمين عام «اتحاد الكتّاب اللبنانيين» الشاعر الياس زغيب الذي تطرّق إلى مشواره مع «الملتقى»، مذكّراً أنَّه منذ يفاعة لغته على ودّ مع هذا المنبر الذي عرفه شاعراً وخطيباً، ومع «صديقه الكبير» الذي جمعه به الهمّ الثقافي في اتحاد الكتّاب يوم كان الشيخ نائباً لأمينه العام الراحل وجيه فانوس، ورأى في تسمية القاعة باسم الشيخ مخدّر لفتة نبل ووفاء. وبعدها، كانت قصيدة للشاعرة آيات جرادي، تلتها كلمة وزير الثقافة الذي رأى أنَّ فضائل ومبادئ ومواهب الشيخ فضل مخدّر كانت هي سكناه ومنازله في حياته وبعد وفاته، وأنَّ أيَّ قاعة مهما رحُبت، تضيق أن تكون وحدها لذكراه مقاماً، ورأى أنَّ الشيخ وحتى في دراسته الإلهيَّات، كان يفتش عن الإنسان في أعماق كل فكر، ومن هنا جاء اهتمامه بالمواهب الشابَّة التي رأى فيها قنوات روحيَّة تجري عبرها القيَم باتجاه المستقبل، ومن هنا كان اعتقاده أنَّ الإنسان الذي من أجله صُنِعَ هذا الكون بما فيه ينبغي له أن يبقى موفور العزّة والكرامة حرّاً في وطن حرّ ليستطيع عمارة الأرض كما أوصاه ربّه ولا يتخلف أبداً عن مقارعة الاحتلال باعتباره نقيضاً للكرامة الإنسانيَّة والحقّ الوطني. ورأى الوزير أنَّ على النوادي الثقافيَّة والملتقيات الأدبيَّة والروابط الفنيَّة أن تسهم بشكل أساسي ومباشر في تشكيل الهوية اللبنانيَّة الحقيقيَّة وإبراز «معالمها المتميّزة في هذا الزمن الذي تستشري فيه الأزمات على غير صعيد وتسيطر العصبيَّات القاتلة على الخطاب السياسي لدى جهاتٍ بعينها لا تزال مصرَّة على رفض الآخر والتنصّل من رسالة العيش الواحد تحت ذرائع تعرف قبل سواها أنها واهية باطلة ولكنّها تصرّ عليها لأسباب معلومة». وفي الختام جرى رفع الستارة عن لوحة فنيَّة عبارة عن بورتريه للشيخ فضل مخدّر أنجزها الفنان التشكيلي يامن صعب مستعيناً بكلمات قصيدة للشيخ الراحل مستهلها «أي عشق يشدّني يا رفاقي، دجلة الخير أم نخيل العراقِ».