محمد حسین اميدى
غادرت الرحلة رقم 1152 التابعة لخطوط ماهان الإيرانية مطار الإمام الخميني (قدس) الدولي في طهران حوالی الساعة السابعة مساء یوم الخميس 23 يوليو / تموز 2020 وعلى متنها 149 راكباً و 15 من أفراد الطاقم إلى مطار رفيق الحريري في العاصمة اللبنانية.
أثناء مرور الطائرة عبر المسار الجوي المحدد في سماء سوريا، اقتربت طائرتان مقاتلتان من طرازF15 التابعة للقيادة المركزية للولايات المتحدة (CENTCOM) من طائرة ركاب “ماهان” بطريقة عَرّضت حياة الركاب للخطر، مما دفع قائد الطائرة لتنفيذ انخفاض سريع ومفاجئ للابتعاد عنها تفادياً للاحتكاك بها. نتج عن هذا الانخفاض المفاجئ ستة عشر إصابة بين الركاب وطاقم الطائرة، تراوحت إصاباتهم بين الخفيفة والمتوسطة، ما عدا إصابة بليغة لأحدهم استشهد على إثرها.
على إثر هذا الحادث رفعت شركة طيران “ماهان” في تموز / يوليو 2022 مع عدد من أفراد الرحلة شكوى ضد الحكومة الأمريكية وثلاثة عشر متهمًا آخرين، وذلك وفقاً القوانين الدولية التي تُحظر قوانينها التعرض للطائرات المدنية، طالب المدّعون بدفع غرامة مالية واتخاذ إجراءات تأديبية ورادعة ضد المتهمين.
في ذكرى هذا العمل الإرهابي، عقد الفرع القانوني الدولي رقم 55 للقضاء في طهران برئاسة القاضي “حسين زاده”، جلسة استماع حول الحادثة. ونحن بدورنا في جريدة الوفاق استمعنا إلى حديث عدد من ركاب الطائرة كشهود عيان، وسألنا الخبراء عن هذا الهجوم الذي نفذته منظمة “سنتکوم” الإرهابية الأمريکية.
مواجهة الموت عياناً
لم نستطع لفترة من الزمن مثل العديد من العائلات اللبنانية العودة إلى بلادنا بسبب انتشار فيروس كورونا، تُخبرنا المدرّسة في معهد الشهيدة “أم ياسر” في مدينة قم المقدسة السيدة “نور عبد الهادي فرحات” وتُتابع حديثها بالقول:” تحضرنا للسفر وكان يوماً اعتيادياً، لم نكن قلقين من السفر لعدم وجود أحداث سياسية أو أمنيّة خاصة. مرت حوالي ساعة ونصف على الرحلة تقریباً وبعد الانتهاء من تناول الطعام، وأثناء فترة الإستراحة كان المسافرون يتجولون بحرية داخل الطائرة. وفجأة بدأنا نسمع تهامس بعض الركاب حول وجود طائرات حربية تُحلق إلى جانب طائرتنا، وشرع البعض بتصويرها، لكن لم يتوقع أحد ما سيجري في الدقائق اللاحقة.
وتتابع شارحةً توالي الأحداث التي جرت على متن الطائرة قائلةً: ” أُطفئت أضواء الطائرة بشكلٍ مفاجىء، وارتفع أغلب المسافرين عن مقاعدهم والتصقوا بسقف الطائرة، بقيت ثابتة في مقعدي لأن حزام الامان الخاص بي مقفل، لم اكن أفهم ما يجري، تهبط بنا الطائرة بنا بشكلٍ سريع وتتعالى أصوات وصراخ الركاب، خِفتُ كثيراً بل مت من الرعب، شاهدت الموت بأم عيني، وأكثر ما أقلقني خوفي على أبنائي من تعرضهم للخطر .استمر هذا المشهد لثوانٍ ثم استقرت الطائرة وأُعيد تشغيل الأضواء، فوقع الركاب على أرض الطائرة مصابين بجراحٍ متعددة ومنهم أولادي الذين أصيب أصغرهم “أمير” بجرحٍ بالغ فوق عينه مباشرة وكُسر كتفه، ولم يستطع النهوض بمفرده، فممدت يدي منتشلةً إياه بأقصى قوتي من بين الأجسام المترامية حوله، وكذلك أصيب ولدي “علي” برضوض في ظهره، فيما كُسرت يد ولدي “حسين”، بينما أُصبت برضوض في ذراعيّ وجسمي، وتلفتُ إلى استمرار القلق مخيماً على الركاب بعد استقرار الطائرة .
طاقم الرحلة والركاب مرعوبون من الإنخفاض المفاجئ
يشير الشيخ “محمد دبوق” أستاذ الحوزة العلمية في إيران ولبنان إلى مشاهدته الطائرة الحربية الأمريكية بعد سماعه تهامس الركاب حولها، ويلفت إلى قربها من طائرته مما سمح له بتبين لونها الرمادي والأسود، فكان ينظر إليها بدون خوف ووجل.
فجأة وبدون مقدمات مسبقة، يقول “دبوق: ” انخفضت الطائرة بشكلٍ متسارع، وهوت معها قلوبنا، وتعالت أصوات الركاب بالصراخ وبتلاوة القرآن الكريم والأدعية والأذكار المختلفة. أكثر الأصوات ارتفاعاً كان بكاء الأطفال الذين يشكلون مع عوائلهم أغلبية الركاب، وأقصى ما سمعناه صراخ طفلة : “بابا سنقع في البحر”. ويلفت “دبوق” إلى تكرار حالة الرعب من سقوط الطائرة مرتين قبل استقرار الطائرة نهائياً، وهو يحمل على طاقم الطائرة عدم إعلامهم بخطوات قائد الطائرة لأخذ الحيطة والحذر.أمّا عن إصابات الركاب فيوضح “دبوق” :”عندما ارتطم ولدي بسقف الطائرة فُتح الأوكسيجين المعلق بها بسبب شدة الارتطام، لقد أصيب العديد من ركاب الطائرة بإصابات مختلفة، وكانت علامات الإرهاق والتعب باديةً على الوجوه الغير مصدقةً لما جرى، وتنتظر الهبوط والوصول بأمان إلى مطار بيروت”.
إستشهاد أحد الرکاب متأثراً بجروحه لاحقاً
بينما كانت الطائرة تحلق بأمان وهدوء اقتربت المقاتلة منها كثيرًا لدرجة أن الطيار قرر فجأة تقليل الارتفاع لتجنب وقوع أي حادث مأساوي، ولم يكن لديه حتى الوقت لإخبار طاقم الطائرة والركاب، تقول الراكبة “فاطمة.ح” وتُتابع حديثها عن إصابة أحد الركاب إصابةً بالغة في النخاع الشوكي إثر سقوطه، وتقول:” ظل هذا الجريح والذي يدعى “السيد أحمد صفي الدين” ممدداً على أرض الطائرة منذ وقوعه حتى وصولنا إلى مطار رفيق الحريري الدولي، ومن ثم نُقل إلى المستشفى لكنه ما لبث أن استشهد بعد فترة. كما أصيب العديد من ركاب وطاقم الطائرة، بمن فيهم إحدى المضيفات بجروحٍ خطيرة. وكان العديد منهم ينزفون، من بينهم صبي أُصيب بجرح فوق حاجبيه وكان ينزف بغزارة”.
وأشارت إلى عدم تقديم المساعدة للجرحى في مطار رفيق الحريري الدولي بسبب الإجراءات الطبية المتخذة بسبب أزمة فيروس كورونا، وتلفت إلى وقوف ركاب الطائرة في صفوف الانتظار مع المسافرين الآخرين حوالي ثلاث ساعات للانتهاء من معاملات الخروج، بدون الالتفات للوضع الصحي والنفسي والتعب والارهاق الذي يعانون منه.
لم نر شيئاً
يوجه الشيخ “دبوق” انتقاداً للمسؤولين للمتابعة السيئة للقضية على عدة أصعد منها عدم تقديم العناية الطبية والمعنوية بالركاب منذ الحادث إلى الآن، مشيراً إلى إصابات صحية ونفسية تعرض لها أفراد عائلته، ويقول:” أصيب ولدي الأكبر البالغ من العمر ست سنوات في ظهره وعينه، بينما تأذى ولدي الأصغر البالغ ثلاث سنوات ونصف بشكلٍ كبير على الصعيد النفسي، أصبح دائم البكاء، ويخاف عند سماعه صوت طائرة، بينما زوجتي أصيبت بتمزقات بالأكتاف وتورم وازرقاق، بعد مرور فترة على الحادث، وبعد إتمام فترة الحظر في المنزل بسبب كورونا توجهنا إلى طوارئ إحدى المستشفيات، في مدينة بیروت، فكان التشخيص إصابتها برضوض، والعلاج كان بسيطاً جداً، وكان على حساب شركة ماهان، ولم يجروا أي صور أو أي فحوصات أو إجراءات طبية أخری.
ضمن السياق نفسه، يتابع “دبوق”: عند عودتنا إلى إيران اصطحبت زوجتي التي كانت ما تزال تعاني من إصابتها، إلى المستشفى هناك وأجرينا صور أشعة، شُخصت إصابتها بوجود تمزقات شديدة في الأكتاف والأقدام والركبة والعظام، وأملك كل المستندات حول هذا الموضوع والتي قدمتها إلى شركة التأمين التي عاملتنا بطريقة غير إحترافية إذ طلبت مني الذهاب إلى مكان الحادث إلى سوريا وإحضار مستندات تثبت حصول الحادث. وأخيراً وبما أن زوجتي تحمل الجنسية الايرانية، دفعت لنا شركة التأمين مبلغ ثلاثين مليون تومان بالرغم من الأضرار الكثيرة التي حصلت.
أمّا الراكب “حسن” فقد أنكر معرفته بالأهداف الحقيقية للأمريكيين من اعتراض الطائرة، ولكن وفق التقارير التي اطلع عليها تبين انهم كانوا يريدون التأكد من هوية الطائرة التي تطير فوق الأراضي السورية. السؤال هنا، يكمل حسن حديثه:” هل هذه هي الطريقة التي يحددون بها هوية الطائرة؟ وهل هم حکام تلك البلد؟ ويضيف: راجت شائعات وأخبار عن وجود شخصية هامة على متن الرحلة، وکذلک أخبار عن نقل أسلحة ونقود من إیران إلی لبنان عبر طائرات مدنية، ولكن هذه شائعات يروجها العدو لتبریر فعلته، ولکننا لم نر شيئًا في هذه الطائرة المدنية، التي تعرضت لإعتداء غادر كاد أن يسبب بفقدان حياتنا.
وقد أجمع کل الرکاب الذین تحدثنا معهم بعدم معرفتهم بوجود المحکمة الإيرانية وأعربوا عن رغبتهم بالانضمام لها لمحاکمة المتسببين بهذا الحادث الإرهابي.
الفرضيات المطروحة حول العمل الاستفزازي الأمريكي
ظن ركاب الطائرة أن المقاتلتين تتبعان للکیان الصهيوني بسبب خروقات متكررة للطيران الصهيوني في أجواء لبنان ولقيامه بتنفيذ غارات عدوانية متكررة في سوريا، ولكن أعلن المتحدث باسم منظمة سنتكوم الإرهابية “بيل أوربان ” أنه أجرت طائرةF15 الأمريکية أجرت خلال مهمة جوية روتينية بالقرب من معسکر التحالف الدولي في التنف في سوريا تعطي تدقيقاً بصرياً نمطياً لطائرة رکاب ماهان على مسافة آمنة من حوالی 1000 متر هذا المساء”!
عادت طائرة “إيرباص ماهان” إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد إجلاء ركابها في مطار بيروت وهبطت في مطار الإمام الخميني(قدس) بعد ساعات من الحادثة في الليلة نفسها، قُدمت فرضيات عدة حول الحادثة منها وجود نية لدى الأمريكيين لتنفيذ “عملية السحق” (suter). ويبدو أن المقاتلات الأمريكية تعمدت التحليق بالقرب من طائرة الركاب الإيرانية حتى تسقطها الدفاعات الجوية السورية عن طريق الخطأ. هذا يشبه ما قامت به الطائرات الحربية الأربعة الصهيونية مع الطائرة الروسية “إليوشن20” في 18 سبتمبر / أيلول 2018 وخداعهم منظومة الدفاع السورية التي استهدفت الطائرة وقتل فيها خمسة عشر من القادة الروس رفيعي المستوى.
لولا مهارة وذكاء وسرعة اتخاذ القرار لدى الطيار الإيراني في الهبوط بشكلٍ سريع، لكانت الطائرة هدفاً للدفاع السوري وفي هذه الفرضية، ولتحققت الخطة الأمريكية الهادفة على إحداث شقاق بين الشعبين الإيراني والسوري، وبالتالي إضعاف محور المقاومة، فهم يسعون دائمًا إلى إثارة الخلاف بين الشعوب عبر منظومتهم الإعلامية لتفتيت وحدة البلدان تعزيزاً لسلطتهم.
وتوضح فرضية أخرى تقصّد الأمريكيين إلقاء اللوم بإسقاط الطائرة على قائد الطائرة بسبب اجتهاد شخصي، ومن ثم ينشرون في إعلامهم مراراً وتكراراً كذبة نقل الحرس الثوري الإسلامي الأسلحة إلى سوريا ولبنان عبر طائرات ماهان المدنية من دون الالتفات لسلامة المدنيين. وهم بهذا يضعون الشعب الإيراني والرأي العام ضد المدافعين عن أمنهم من أجل إيجاد موطئ قدم لهم في إيران.
الأمريكيون، المتهربون من القانون، والمدعون بالقانون
على أي حال؛ إن سلوك الطائرات المقاتلة تجاه رحلة ماهان رقم 1152 والتسبب في إزعاج لطائرة ركاب في أجواء دولة ثالثة لا يُدان فقط باعتباره عملًا إرهابيًا من قبل الرأي العام العالمي، ولكنه أيضًا يُعد انتهاكًا واضحًا لأمن الطيران وانتهاكًا للقانون. وفقًا للفقرة (د) من المادة 3 من معاهدة الطيران الدولية، والتي تُعرف باسم اتفاقية شيكاغو لعام 1944، تعهدت أكثر من 200 دولة بالاهتمام بأمن الطائرات المدنية. وتم التأكيد أيضاً على أن أي شخص يُعرّض للخطر عن عمد ركاب طائرة مدنية أثناء الطيران يُعتبر مجرمًا وفقاً لمؤتمر مونتريال لعام 1971 .
لذلك أُدين هذا العمل الأمريكي منذ اليوم الأول، واحتجت کل من إيران ولبنان وسوريا على تصرفات الولايات المتحدة في المحافل الدولية، وتم إنشاء محكمة للتحقيق في هذه الجريمة ومرتكبيها. وفي الأشهر القادمة سنسمع الكثير عن ملف هذا العمل الإرهابي.