حسن نعيم
كان طبيعيًا أن حربًا طويلة كالحرب الإيرانية العراقية التي استمرت لثمانية أعوام من الزمن بخط جبهوي شاسع أن تكون مصدراً لإلهام عدد من المبدعين الإيرانيين الذين غرفوا من ماء الجبهات مادتهم الخام وصاغوا عالمًا بحد ذاته، عالم محفوف بالمخاطر والحذر الدائم من العدو في الجهة المقابلة والخوف من القصف الجوي وحقول الألغام والحراسات الليلية وليالي الصقيع والأمطار والثلوج الجبلية إضافة إلى حضور التضاريس بصحاريها ووديانها وممراتها المائية وجزرها. في حرب كتلك وظروف كتلك برع الأدب الإيراني في تبيان خصال المجاهدين كالصبر والشجاعة وشدة البأس والالتزام بأوامر القيادة والتضحية والإيثار.
غير أن ما يميز الأدب القادم من الجبهة الايرانية هو تصويره لواقع مختلف عن سائر الجبهات العالمية لجهة النزعة الإنسانية التي تجلت في كثير من تلك الكتابات. وهذه النزعة الإنسانية تستبطن الدعوة الى التسامي وتغليب الروحي والنفسي على البيولوجي، والسعي إلى إعلاء الفكر الديني على حساب الفكر المادي.
لقد عثر الكاتب الإيراني في تلك الجبهات على لقطات انسانية من الصعب أن تجدها في أية حرب من الحروب وفي أي بقعة من بقاع الأرض.
تروي القصص الوافدة من الجبهة حكايات قادة من طراز نادر تشبه أولئك الابطال الملحميين. إنهم عمالقة أسطوريون بثياب بشر انتصروا على أنفسهم وكان هذا الانتصار الداخلي على النفس مقدمة للانتصار الخارجي على الأعداء.
“سلام على إبراهيم”
في قصة “سلام على إبراهيم” التي تروي سيرة الشهيد إبراهيم الهادي، وهو بطل في الرياضة التراثية الإيرانية، نقرأ عن بطل لديه مفهوم خاص للبطولة يتجسد فيه معنى العرفان العملي. عن إبراهيم الهادي يتحدث الشاب الذي هزمه في مباراة نصف النهائيات: “لم أكن أعرف إبراهيم يومها لكنني قلت له: يا أخي راعنا قليلا فقد أصيبت قدمي هذه، فأجابني يومها: على عيني يا رفيقي. شاهدنا مباراته. كان أستاذاً في المصارعة على الرغم من أن ضرباته الفتية ترتكز على القدم لكنه لم يقترب من قدمي أبدًا، لكنني بكل نذالة رميته أرضاً ووصلت إلى النهائيات بعد فوزي عليه كان باستطاعته الفوز بالبطولة وبكل سهولة لكنه لم يفعلها. أنا أعتقد أنه سمح لي بالفوز عن سابق إصرار وتصميم ولم ينزعج أبدا من خسارته لأن لديه فهما وتعريفا آخر للبطل لكنني كنت سعيداً جداً بفوزي وازدادت سعادتي عندما قابلت في المباراة النهائية أحد أبناء حيّنا وكنت أعتقد أن الجميع لديه شهامة إبراهيم فقلت لخصمي قبل المباراة: إن قدمي مصابة ولكن للأسف كانت ضربته الأولى على هذه القدم فصرخت من شدة الألم ثم رماني أرضاً وفاز بالمرتبة الأولى تلك السنة وأنا بالمرتبة الثانية وحل ابراهيم ثالثاً رغم أنه كان يستحق البطولة”.
وفي القصة نفسها نقرأ عن مباراة أخرى اكتفى إبراهيم فيها برد الضربات ولم يوجه اللكمات لخصمه وتركه يفوز عليه كي يفرح قلب والد خصمه بفوز إبنه.
“تراب كوشك الناعم”
وفي قصة أخرى حملت عنوان “تراب كشك الناعم” نتعرف على الشاب عبد الحسين برونسي الذي حولته الجبهة من عامل بناء بسيط يعمل في بناء المنازل إلى قائد عمليات في الحرس الثوري يحسب له الأعداء ألف حساب ويطلقون عليه لقب بروسلي تيمنا ببطل “الكونغ فو” الصيني الشهير.
تحكي القصة عن روحية هذا الشاب الذي اغتنم فرصة هبوب العاصفة الثلجية ليبني بيتًا لجاره الفقير ليسكن فيه عياله بعيداً عن عيون نظام الشاه رغم أن صاحب هذا البيت فر من البرد والصقيع وتركه وحده يبني الجدار حتى بزوغ الفجر وإنجاز العمل. هذه الروح المضحية سرعان ما تتجاوب مع أصداء الثورة وتلتحق في صفوفها وتعتقل لأكثر من مرة وتعذب في أقبية سجون “السافاك” ولا تبوح بسر واحد من أسرار الثورة رغم ألوان التعذيب التي أسفرت عن كسر فكه وأسنانه وتنتقل هذه الشخصية إلى الجبهات لتكتب هناك أسطورتها المذهلة التي يحضر فيها البعد الغيبي بقوة ومؤثرية.
“فاتح القلوب”
وهنا نص من سيرة الفريق الشهيد ابراهيم همت بعنوان “فاتح القلوب”. تقول زوجة الشهيد إبراهيم همت:
كنا ننتظر ولادة ابني مصطفى، وكان أخوه مهدي كثير الحركة وإبراهيم ليس معنا بعد عدة أيام أتى من طهران كانت عيناه الحمروان والمتعبتان تظهران بوضوح أنه لم ينم منذ ليال عدة. نهض من مكانه، أخذ بيدي وأجلسني على الأرض وقال “الليل دوري كي أعوض بعضا من تقصيري”. لم يدعني أكمل كلامي ذهب وأعد المائدة بنفسه ثم سكب الطعام وأحضره. أطعم مهدي بكل هدوء وأناة ثم جمع الأواني. أعد الشاي وناولني القدح قائلا: “تفضلي”، بعدها عاد يتحدث مع الجنين ويناغيه “يا بني إن كنت صبيا صالحاً فعليك أن تسمع كلام أبيك: تفضل أقدم علينا هذه الليلة اعلم أن أباك مشغول كثيرا وإن لم تأت الآن سوف يبقى طوال الوقت في الجبهة قلقا عليك وعلى أمك. هيا كن شهما واخرج وأطع أباك. وما لبث أن تراجع عن كلامه بسرعة “لا يا بني. بابا إبراهيم منهك جدا فهو لم يفكر فدعوه ينام حسنا ليكون في الغد لدينا متسع من الوقت”.
“الهداية الثالثة”
وفي قصة “الهداية الثالثة” التي تروي ذكريات محمد جعفر الأسدي في الجبهة نقرأ:
“كان حسن باقري قد تزوج للتو، وجاء بزوجته إلى الأهواز. إلا أنه كان ينام لياليَ عدة في المعسكر، ولولا إصرارنا عليه لما غادره، فشؤون الحرب كانت لا تسمح له بزيارة البيت.
تساءلت من أين سيأتي بالطعام لبيته، والدكاكين معظمها مغلق بسبب ظروف الحرب، ويبعد بيته عن القاعدة مدة ساعة. لذلك قلت له: “أستبعد أن تجد شيئًا في هذا الوقت”. وناديت أحد الإخوة ليحضر له طعامًا، لأن الغداء قد نفد حسب تقديري. فوضع له علبة لبن ورغيفي خبز في كيس، وذهبت لأعطيها لحسن، فرفض أخذها، فقلت له: “ما ذنب زوجتك لتبقى جائعة؟”.
أعطيته الكيس وربّتُّ على خصره، أي اذهبْ ودَعْني أنام قليلًا، لكني قبل أن أستلقي رأيته عائدًا، قال لي: “لقد تجاذبتني الأفكار لأجد مخرجًا لكنّني لم أجد لهذا مسوّغًا شرعيًّا!”. فنهضت وقلت له: “حسنًا خذ حصتك من الطعام إلى البيت، وتناولها مع زوجتك. وإن كان ذلك يزعجك أيضًا، أحضر معك غدًا رغيفين وعلبة لبن وضعهما في المطبخ”. يبدو أن فكرتي هذه أقنعته، فهزّ برأسه موافقًا وذهب.
استلقيت لأنام دقائق لأكون صاحيًا قبل الاجتماع، وما إن ثقلت عيناي، حتى أحسست بوجود أحد قربي، وصوت خطواته تقترب من المطبخ، أزحت يدي عن عيني لأرى من القادم. إنه حسن كما يبدو بهيئته لمن يراه من الخلف. فناديته: “أراك قد عدت؟!”. جاء ووقف فوق رأسي، احمرّ وجهه، وجبينه يتصبب عرقًا، فتأوه بصوت عالٍ وقال: “لعلّي لا أبقى حيًا حتى الغد لأشتري بديلًا عن هذا الطعام وآتي به. توكلت على الله، سأذهب وأبحث في المدينة لعلّي أجد طعامًا، فآخذه إلى البيت وأعود فورًا”.
إلى هذه القصص الإيرانية المعربة وجلها صادر عن دار المعارف الإسلامية ضمن سلسلة “سادة القافلة” التي تروي سير قادة كبار كالشهيد شمران ومتوسليان وإبراهيم وكاوة معجزة الثورة الذي خالف أمر الأطباء الذين نصحوه بالبقاء في المستشفى تحت العناية فهرب من غرفته معصب الرأس بالشاش الأبيض ليلتحق بالجبهة ويقود العمليات المظفرة.
إذا كان أول من استخدم مصطلح النزعة الإنسانية في الأدب وفي النهضة الإيطالية هو المؤرخ الألماني الشهيرجورج فويت عام 1856م إبان عصر النهضة الأوروبية، واذا كان إيراسموس الفيلسوف الهولندي، وخوان لويس فيفيس، وغيوم بوديه وجاك لوفيفر ديتابل، من أبرز ممثلي هذه النزعة الإنسانية على مستوى أوروبا كلها فإن هذه الرؤية وجدت في أدب الجبهات الإيرانية مصداقها الأنصع في العصر الحديث. ولعل الأبرز في النص الإيراني أنه جاء حياً واقعياً أقرب ما يكون إلى الخيال وليس خيالاً محتمل الحدوث. فهل هي ميزة وفرداة تحتسب للتجربة الأدبية الإيرانية الآتية من الجبهات؟