في الثالث والعشرين من أيار/مايو من العام 2000، كنت أحضِّر نفسي للمشاركة في امتحانات الثانوية العامة بعد اثنتي عشرة سنة من الجُهد والكدِّ والتعب. سنواتٌ لم تخلُ من نقاشات صبيانية مع زملاء الدراسة، كوننا كنا ننتمي إلى مختلف التوجهات اللبنانية، تبعاً لمِلّة آبائنا.
منّا من كان يسارياً، أو عروبياً، أو قومياً أو متطرفاً من مختلف الأعيرة الحزبية اللبنانية. أنا كنت محسوباً على حزب الله، وبالتالي كان الكثير منهم مجتمعاً على اعتباري مغامراً متهوراً، كما المجاهدين باعتبارهم اتخذوا قراراً من الصعب تحقيقه، ومتبنِّياً لثقافة الموت، كما المجاهدين باعتبارهم مشاريع شهداء، وأنْ لا أفق لما أجتهدُ من أجله في المدرسة، كونه يتعارض برأيهم مع ما تقوم به الفئة اللبنانية التي أنتمي إليها من فعل جهادي مقاوم، على مبدأ أن العين لا تقاوم المخرز.
ويأتي السؤال الذي كانت تُختَم به كل تلك النقاشات “الولادية”، الحادة في غالبيتها: هلأ إنتو بدكن تغلبوا اسرائيل؟ فيضحك الجميع باستهزاء مستفزّ، وينصرف كل منّا إلى ما يُلهي به نفسه أثناء فترة الإستراحة.
لا أخفي عليكم أنه لم يكن لديَّ جواب لهذا السؤال، وما كان لي أن أثبت لأولئك الزملاء مضمون قوله تعالى:”كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”، إلا أن الثابت عندي كان، أن الله لا يضيع أجر العاملين.
في الثالث والعشرين من أيار/مايو من العام 2000، كانت عيناي تتفحّصان كتاب الفيزياء في صالون المنزل، وكان كلٌّ من قلبي وعقلي متسمِّرَيْن أمام شاشة المنار في غرفة الجلوس: الجنوب يتحرَّر، وجيش لحد يتهاوى، وتمرُّ إسرائيل بمخاض عسير، ستلدُ فيه طفلاً مشوَّهاً بالنسبة لها اسمه “الإنسحاب المُذِلّ”، من أب اسمه “إيهود باراك”.
ثلاثة أيام من أيام الله
ثلاثة أيام من أيام الله، اتصل بي خلالها جُلُّ زملائي في المدرسة من كافة الأحزاب والأطياف والتوجهات، لتهنئتي بانتصار العين التي أنتمي إليها وأؤمن بشبابها، على المخرز الإسرائيلي المهزوم.
بعد ثلاثة وعشرين عاماً على التحرير المبارك، استعادت شاشة المنار مرة أخرى تلك اللحظات الربانية، في محاكاة وثائقية للتحرير. أجمل ما فيها أنها استطاعت نقل الماضي، المتجدِّد مع كل انتصار لمحور المقاومة وكل هزيمة للمحور الآخر، بكل أحاسيسه ووجدانياته.
سلسلة وثائقية
سلسلة وثائقية، عمل كل من الإعلام الحربي في حزب الله ومؤسسة الحقيقة للأفلام الوثائقية التابعة لاتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية على إنتاجها لتكون خلاصة لرؤية حزب الله لرواية التحرير لحظة بلحظة. منذ اللحظة الأولى لبداية الرواية – الفيلم عمل المعنيّون على صناعة سلسلة وثائقية غير تقليدية في الشكل والمضمون.
في الشكل يستوقفك وجود العنصر النسائي في تقديم سرديّة تحمل طابعاً عسكرياً – أمنياً في الكثير من صفحاتها، الأمر الذي لم يعتده المشاهد العربي والإسلامي. فالسلسلة كلُّها، جاءت على لسان امرأة تبحث في الوثائق الورقية والصوتية والتصويرية، فتروي قصص التحرير وتحلِّل الأحداث وتستخلص النتائج.
وما وجود العنصر النسائي في المقابلات التي استعرضتها السلسلة على طول حلقاتها، إلا اعترافاً بدور المرأة في صناعة ذلك التحرير خصوصاً في شقِّه الشعبي. فكانت المرأة رفيقة الرواية كما كانت رفيقة الجهاد والصبر والمقاومة.
بدأت الحلقة الأولى بمقتل قائد الإرتباط في الجيش الإسرائيلي “إيرز غيرشتاين” عام 1999، لكن أبدع صانعو هذه السلسلة في لعبة الزمن الحقيقي للفيلم، والزمن الواقعي في مجريات الأحداث كما حصلت على الأرض.
فتارة ترانا عند قضية مقتل “إيرز غيرشتاين”، وتارة أخرى عند قلعة الشقيف وبدايات الشرارات الأولى للتحرير، ثم في الضاحية الجنوبية لبيروت، وبعدها في تل أبيب.
أتى ذلك في توليفة منطقية حفظت ترابط الرواية بعيداً عن المبالغة في القفز غير المنطقي من فكرة إلى أخرى. من هنا نرى إصرار صانعي هذا العمل على إعلامنا بتوقيت مجريات الأحداث، فعند بداية كل منعطف في القصة نرى رسماً توضيحياً (caption) يعلمنا بالفارق الزمني الذي يربط ذلك الحدث بلحظة التحرير، وبالتالي كان المشاهد أمام مُنَبِّهٍ زمني جاء على هذا الشكل: 14 شهراً و28 يوماً قبل التحرير، حتى وصلت هذه العبارات إلى إعلان دقائق قبل وبعد التحرير في الحلقات المتقدمة، وهذا يدل على قوة التحقيق الذي تمَّ إجراؤه قبل البدء بالتنفيذ (preproduction) والسيطرة الكاملة على الأرشيف المستخدَم أثناء المونتاج.
الهيكلية العامة للسلسلة
أما بالنسبة للهيكلية العامة للسلسلة فكانت قائمة على توليف موازٍ ينتقل بين طرفَيْ حدود الرواية، أي بين الشريط المحتل وشمال فلسطين المحتلة في العمل العسكري والأمني والشعبي، وبين الضاحية وتل أبيب في اتخاذ القرار، وبين دمشق وواشنطن والأمم المتحدة في مفاوضات تنفيذ القرار 425، فشكلت هذه العناصر كلها خطوط الرواية والتقَتْ كلُّها في نتيجة واحدة: التحرير والإنسحاب تحت النار.
كانت هذه نقطة فارقة في هيكلية العمل الوثائقي، وهنا لن يستطيع المشاهد التفاعل معها بمظهرها الخارجي، لكنها، دون أدنى شك، تؤتي أُكُلَها في صميم لا وعي المشاهد وعقله الباطني ومشاعره وأحاسيسه. عند مشاهدتك لهذه السلسلة لن تجد عنصر الإبهار في الشكل، فالعنصر الغرافيكي كان في غاية البساطة ولم يكن في السلسلة أثر يُذكر للمؤثرات البصرية أو المحاكاة التصويرية، لا بل إن ما صُنع في الحواسيب من خرائط وجغرافيا ثلاثية الأبعاد لا يمكن وضعه ضمن لائحة الإبهار (باعتقادي أن ذلك كان مقصوداً)، بهدف الربط على أحاسيس المشاهد، لتوجيه السير المنطقي للقصة بالطريقة التي أرادها صانعو هذه السلسلة.
في المضمون، أول ما يلفت انتباهك هو الإهتمام بالتفاصيل إلى أقصى حدود. ففي غالبية الحلقات كنا أمام كشف لمجريات دقيقة للغاية وصلت إلى حد الحديث عن ما دار في ذهن “إيهود باراك”، وما كان يظنه “شاوول موفاز”، وما اعتقده “غابي أشكنازي”، حتى نقد وتحليل النظرات التي كان يتمُّ تبادلها في جلسات قادة جيش العدو، أو الحديث مثلاً عن أهمية الطريق التي تمَّ تحسينها أثناء التحضير لعملية كوكبا ودورها في إرسال المجاهدين إلى بلدة الخيام قبل وصول الناس، كما كان ذكر مجريات التحرير في كل نقطة وزاروب وشارع وحي وقرية، وذلك الرجل الذي استقبل الناس لحظة التحرير وأراد إطعامهم العسل من منحله، وذكر أسماء أشخاص ما كان أحد ليسمع بهم، إضافة إلى تلك المرأة التي تحدثت عن ارتشافها القهوة مع رفيقاتها عند النهر يوم قرَّرت الدخول معهنَّ إلى القنطرة.
جاء ذلك وكأن التحرير كان البارحة ولم يمرّ عليه قرابة العقدين من الزمن، الأمر الذي يعكس الذاكرة الحية التي ما زالت تحفر عميقاً في أذهان أبطالها.
فكرة “التحرير الشعبي”
نقطة أخرى مهمة جداً في مضمون هذا العمل وهي فكرة “التحرير الشعبي”، الأمر الغائب عن أذهان غالبية المشاهدين في العالم وحتى عن اللبنانيين. فالكثير منهم لم يكن على علم أن الشرارات الأولى للتحرير بدأت شعبياً، وكما ذكر الشيخ “نبيل قاووق” في إحدى الحلقات أن الحزب وجد نفسه مضطراً لمماشاة الدفع الشعبي الذي أوجدته الجموع في الغندورية وأثناء الدخول إلى القنطرة، لا بل إن الجموع الشعبية تجاوزت حسابات الحزب التنظيمية والعسكرية عند بعض المحطات التي كان يعتبرها حزب الله خطرة، منها تكسير بوابة الأمم المتحدة عند بلدة القصير واجتياز ذلك المعبر أمام ناقلات جند اليونيفل.
وبالتالي نحن أمام مصطلح مهم جداً في عملية التحرير يمثل شقاً كاملاً بحد ذاته، لم يكن أقل أهمية من الفعل المقاوم في تلك الأيام المباركة، وهو مصطلح :”التحرير الشعبي”. من هنا أصرَّ صانعو هذا العمل على إيلاء أهمية خاصة لمقابلات مع من كانوا قادة “التحرير الشعبي”، أقصد أهالي تلك القرى رجالاً ونساءً بدءاً من الغندورية إلى آخر البلدات المحررة.
من هنا کانت المسؤولية الكبرى التي وقعت على عاتق كل من الكاتب والمخرج الذَيْن كانا مجبرَيْن على إقحام مقابلات لأناس لا علاقة لهم بالنقد والتحليل السياسي والعسكري والميداني، مع مقابلات لشخصيات رسمية بمستوى الأمين العام لحزب الله ومسؤولين من الصف الأول. وهذا ليس بالأمر السهل أبداً.
الأرشيف
حجم الأرشيف المستخدَم ونوعيته وكيفيته كان من الأمور البارزة التي ميزت هذا العمل الوثائقي. فبغضِّ النظر عن الحجم الهائل للأرشيف التصويري والصوتي والورقي المستخدَم، إلا أن الأهمية الفعلية تكمُنُ في نوعية هذا الأرشيف الذي كشف الكثير من أسرار المقاومة وإسرائيل في الوقت عينه.
حيث تضمَّنَ محاضر جلسات قادة المقاومة بتفاصيلها في ذلك الوقت، وكشفَ عن الخيارات التي كانت مطروحة. والملفت في هذا أنه تمَّ الكشف عن نمط تفكير قادة المقاومة في الكثير من المواقع، لدرجة أنه بيَّن المسير الذي اتبعه الشهيد الحاج عماد مغنية وقادة آخرون أثناء التحرير (وادي السلوقي مثلاً)، ومسألة استحداث غرفة عمليات في منطقة بئر السلاسل لإدارة عملية التحرير وتحرُّكات الناس.
إضافة إلى ذلك فإن السلسلة الوثائقية هذه أزالت النقاب عن واحدة من أهم فرق المقاومة الأمنية في تلك الحقبة وهي وحدة العباس، فكانت المرة الأولى التي يكشف فيها جهاز الأمن التابع للمقاومة ملفاته ومعلوماته بشأن أسرار تحرير عام 2000 بهذه الكمية والكيفية والوضوح، الأمر الذي لم يعتد عليه المشاهد، بعد أن ألِفَ تغطية وجوه الشخصيات الأمنية، واللعب على حبل الكلام وقول الرموز لا أكثر.
من ناحية أخرى أتى هذا العمل على ذكر محاضر جلسات أجراها كبار قادة العدو بتفاصيلها الدقيقة حتى برزت الجرأة لقول ما كان يفكر فيه الحاضرون في تلك الجلسات وما كانوا ينوون فعله، منها محضر الجلسة التي عُقدت في “شومرا” بين “باراك” وقادة جيش العدو، لا بل أكثر من ذلك، فإن هذه السلسلة ذكرت قصة امتلاك الصهاينة معلومات مفصلة عن تحركات المعاون الجهادي في حزب الله آنذاك الشهيد القائد الحاج عماد مغنية، والإمكانية التي كانت متوفرة لديهم لإغتياله، وامتناعهم عن ذلك امتثالاً لأوامر “باراك” الذي فضَّلَ مكاسِبَه الشخصية في مرحلة حرجة في تاريخ إسرائيل.
من هنا يمكن الحديث عن مستوى المتابعة النقطوية واللحظوية التي تقوم بها وحدة المعلومات التابعة لحزب الله في بحث وجمع وترجمة وأرشفة ومقارنة ومُقاطعة ونقد وتحليل المصادر العبرية التي تمَّ الكشف عنها في كيان العدو الصهيوني، والتي أفادت بها فريق إعداد السلسلة الوثائقية وجعلته محيطاً بكل خيوط الرواية من الناحية العبرية.
وبالتالي جاءت هذه السلسلة لإبراز المستوى المعلوماتي المهم الذي وصلت إليه المقاومة في “حرب الأدمغة” التي واكبت العسكر والأمن طوال عقدين من الزمن، فكانت هذه النقطة أحد أسرار انتصاراتها بدون شك.
في المضمون أيضاً كانت كل حلقة تتميز بنهاية جذابة تُطرح فيها الأسئلة وتُقدم الفرضيات في مشهد لم يخلُ من مساحات التصوير المميز والمونتاج الراقي، وكأنك أمام نفحة درامية مليئة بالإحساسات والعواطف يحيط بها وابل من صواريخ معلوماتية دقيقة، فكانت نهاية كل حلقة كفيلة بِوَضْعِ موعدِ بثِّ الحلقة اللاحقة على لائحة انتظار المُشاهد، بحبِّ وشوق كبيرين.
ثلاثة أيام وعقدان
انتهت حلقات السلسلة الوثائقية “ثلاثة أيام وعقدان” على شاشة المنار كما انتهت تلك الأيام المباركة عام 2000، بِعَدَمِ اختصار التحرير بمقاومة حزب الله، بل اعتبرَتْ أن التحرير أتى نتيجة مقاومة الشعب اللبناني بمختلف أطيافه وأحزابه وبصمود شعبه وكل إنسان حرٍّ في هذا البلد، كما جاء على لسان سماحة الأمين العام لحزب الله في مهرجان التحرير عام 2000، وفتحَتْ باباً أمام قضية الأمة الأولى أي “تحرير فلسطين”، وأمَلاً وموعداً قريباً إن شاء الله.
على كل حال ما يمكن قوله في النهاية أن السلسلة الوثائقية “ثلاثة أيام وعقدان” كانت في الدرجة الأولى رواية لتاريخ حقبة مهمة جداً من تاريخ لبنان، كُتبَت على ورقة الحقيقة التي لا تَقبل الريب ولا الشك، وقَطَعَت الطريق أمام هواة تحريف التاريخ، الذين جعلوا يوماً ما من السيد عبد الحسين شرف الدين وأدهم خنجر وصادق وحمزة قُطاعَ طُرُق، وخُتِمَت الصفحةُ التاريخيةُ هذه بإمضاء: إيمان، جهاد، شهادة.
د. حسين أحمد سماحة
باحث ومحقق