النصر هو النصر العسكري والفتح هو الفتح الحضاري

الحضارة الاسلامية الحديثة؛ ايران انموذجاً

مفهوم الحضارة مختلف في تعريفه، وربما أخذنا تحديد المفهوم إلى الانزلاق عن غاية معرفته، وعنوان الندوة ومحاورها ذات الطابع النظري العملي يجعلني أختار تعريفاً أراه الأقرب إلى غرض الندوة وضرورات الأمة.

2022-11-30

الشيخ محمد الزعبي

الحضارة هي تصور للكون والإنسان والحياة يتميز بالحيوية والقدرة على تقديم مفاهيم شاملة وصالحة لبناء منظومة متقدمة من الأفكار والقيم والأخلاق والمعارف الإنسانية والعقلية والطبيعية، تعطي للأمة حضوراً عالمياً مؤثراً من خلال مسؤولية رسالية.

وإذا تتبعنا تاريخ النهضات البشرية نجد أن النهضات التي ارتقت إلى مستوى تقديم حضارة قامت على هذه الرؤية، وطبيعي أن تدعو الحضارات المتقدمة شعوب العالم إلى نموذجها، من خلال تقديم هذا النموذج كأسوة يقتدى بها، أو من خلال الاستعمار الثقافي الذي يستهدف السيطرة على مقدرات هذه الشعوب من خلال هزيمتها نفسياً أمام نموذج حضاري متفوق، مما يجعلها تسلم لهذا النموذج وتخضع له، أو من خلال الاحتلال العسكري الذي يجعل الغالب مقلداً للمغلوب.

كمثال توضيحي: افرض أن هناك شاباً ساذجاً ورث ثروة كبيرة، يمكن لمحتال أن يحتال عليه فيسرق شيئاً من ثروته، ولكن يمكنه أن يسلك طريقاً آخر، من خلال سيطرته على فكره فيصبح هو مرجعه في كل شيء، وبالتالي فإن ثروته كلها تصبح بتصرفه. وهذا ما سلكه الاستعمار في أفريقيا والبلاد العربية على سبيل المثال، بحيث أقنع هذه الشعوب بتفوقه الحضاري وتفوقه العسكري أنها بحاجة إليه، وأنه لا يمكنها الانفكاك عن إدارته.

وبالانتقال إلى الحضارة الإسلامية في التاريخ، فلا خلاف أن هذه الحضارة استطاعت لقرون أن تكون الأكثر حضوراً في الساحة العالمية، رغم ما حصل في تطبيقاتها من خلل وانحرافات، ولكن تفوقها كان في تقديم منظومة متكاملة تنطلق من تصور للوجود والكون والإنسان والحياة لينبثق عنها مفاهيم لكافة شؤون الحياة وخاصة في نظريات المعرفة والقدرة على هضم معارف الآخرين وتطويرها.

ورغم الانحراف السياسي في نظام الحكم، وصولاً إلى جعله وراثياً، ورغم الظلم الذي مارسه الخلفاء، واضطهاد كل معارضة سياسية، إلا أن قوة الدولة لم تضعف، ربما لأنها تستمد من قوة الزخم في الانطلاقة الأولى التي بدأت صافية صحيحة على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

نعم قامت سلطات ديكتاتورية تقمع كل معارضة، ولكنها إلى حد ما لم تقمع المعرفة العلمية، وربما شجعتها كما في عهد المأمون العباسي وغيره، خلافاً للمعارف الفقهية والحديثية التي لم تسلم من تدخل السلطة لمنع أي تفكير أو فقه ربما يؤثر في ملكها. وهذا التدخل هو ما أخر العقل الفقهي أن يواكب تطور العقل العلمي والفلسفي.

ولذلك وجدنا أنه في الوقت الذي كان ابن سينا يقدم إنجازاته العالمية في الطب والفلسفة كان الفقهاء أو أكثرهم يحكمون بكفره أو فسقه، وفي الوقت الذي كان جابر بن حيان تلميذ الإمام جعفر الصادق يقدم إنجازاته الخالدة في الكيمياء إلى الحد الذي جعل عالم الكيمياء الفرنسي مارسيلان بَرتيلُو في كتابه )كيمياء القرون الوسطى) يقول: “إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق” ، نجد ابن تيمية في المقابل يحرم علم الكيمياء ويقول عن جابر بن حيان في المجلد 29 من مجموع فتاويه ص374: “وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية فمجهول لا يعرف وليس له ذكر بين أهل العلم ولا بين أهل الدين”. بمثل هذه السذاجة كان العقل الفقهي يحاكم العقل العلمي، فيحكم على عالم كيمياء بمقاييس علماء الجرح والتعديل.

ولكن ذلك لم يقف حائلاً أمام تقدم الحضارة الإسلامية التي كانت -رغم الخلل والتحريفات- تقدم نموذجاً متفوقاً على النماذج عند الآخرين، إضافة إلى القوة العسكرية التي أصبحت عنواناً للفتح وفرض ثقافة الإسلام أمراً واقعاً.

بينما الفتح الذي تحدث عنه القرآن كان فتحاً حضارياً قبل أن يكون فتحاً عسكرياً، قال تعالى: “إذا جاء نصر الله والفتح (…) إنه كان تواباً” ، فالنصر هو النصر العسكري والفتح هو الفتح الحضاري، حيث أقبلت الوفود في العام التاسع الهجري يعلنون إسلامهم بغير حرب.

والحضارة الإسلامية هي قدرة العقل على استنباط تصور للوجود من القرآن والوحي يبني عليه قراءة للعالم والقيم والأخلاق والإنسان والمجتمع والمعرفة، وهذا التصور مرتبط بقدرة العقل على الاستنباط، ولذلك فهي تفاعل العقل مع الوحي، فلا تخلو من نقص، ولكن بقدر استيعاب العقل لنص الوحي وقدرته المعرفية والمنهجية يكون اقتراب الحضارة الإسلامية من الحقيقة الوحيانية.

لكن ذلك التفوق الحضاري لم يلبث أن انقلب إلى تخلف بسبب ما أصاب الأمة من جمود الفكر (قسوة القلب) بطول الأمد (فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم)، فيما كان العالم الغربي قد دبت فيه الحيوية واستطاع أن يبني نهضة قدمت نموذجاً متفوقاً نسبة إلى ما في العالم بعد انحسار الحضارة الإسلامية. ولما كانت النفعية عنصراً أساساً من عناصر الحضارة الغربية فإن الغرب لم يستخدم تفوقه الحضاري كرسالة لنهضة باقي الشعوب، وإنما استخدمها لاستعمار الشعوب والسيطرة على مقدراتها وإجهاض كل محاولة نهوض.

عانى العالم الإسلامي لأكثر من قرنين من التخلف والهزائم على كافة المستويات السياسية والعسكرية والثقافية والعلمية، وهذا التخلف الحضاري سبب ألماً وشعوراً عاماً بالحاجة إلى التغيير والنهوض، فبدأت محاولات النهوض من خلال نظريات قومية أو إسلامية، وصولاً إلى المحاولة الناجحة في إيران حيث قامت ثورة مكتملة العناصر، تمتلك التصور للكون والإنسان والحياة، وتمتلك غنى فلسفياً، ومفاهيم عميقة للثقافة الثورية والنظرية الاجتماعية وحركة التاريخ، إضافة إلى وعي سياسي مدرك لواقع السياسة والثقافة والمعرفة في عصره، كل ذلك يرتكز على أساس قرآني، استطاعت أن تسقط نظام الشاه، لتقيم جمهورية إسلامية أسست لنهضة ثقافية وفلسفية وفكرية وعلمية.

والحيوية في الجسد الاجتماعي تشبه السرطان في الجسد البيولوجي من حيث الانتشار (مع فارق الشبيهين)، فعندما يدب السرطان في منطقة من الجسد سرعان ما ينتشر في الجسد كله، ويحاول الأطباء إن اكتشفوه أن يحاصروه ويمنعوه من الانتشار؛ وكذلك الحيوية في الجسد الاجتماعي، عندما تدب في منطقة فإنها سرعان ما تنتقل إلى الجسد كله. فعندما دبت الحيوية في فرنسا مثلاً وانتصرت الثورة الفرنسية سرعان ما تفاعل معها الجسد الأوروبي كله، وسرت الروح الثورية إلى كافة الجسد الأوروبي، فنهضت الدول الأوروبية، ولم تصبح بذلك تابعة لفرنسا أو ملحقة بها.

وفي العالم الإسلامي دبّت الحيوية في منطقة من الجسد الإسلامي تدعى إيران، وانتصرت الثورة الإسلامية، وكان ينبغي أن تنتقل هذه الحيوية إلى سائر الجسد الإسلامي، ولكن الاستعمار الغربي بقيادة أمريكا أدرك أن عليه أن يأخذ المبادرة، ويحاصر الثورة، ويمنع حيويتها أن تسري إلى باقي العالم الإسلامي، فكانت الحرب العراقية الإيرانية التي حاولت محاصرة إيران بالقومية، ثم كانت الحرب المذهبية التي قادتها السعودية عبر إعلام ومؤسسات دينية ودور فتوى لمحاصرة إيران مذهبياً، وقد نجحت هذه المحاولات إلى الآن في منع الحيوية عن باقي الجسد الإسلامي، وبقيت إيران المحاصرة دولياً وإقليمياً ومذهبياً تتقدم وحدها على المستوى الثقافي والعلمي والتكنولوجي فيما العالم الإسلامي من حولها كل همه أن يحارب هلالاً وهمياً في طواحين هواء لا تحافظ إلا على تخلفه وتبعيته.

الحيوية الثقافية الإيرانية ترتبط بعموم الإسلام أكثر من ارتباطها بتفاصيل المذهب، بمعنى أوضح: أبحاث الفلسفة الإسلامية ونظريات المعرفة وفلسفة التاريخ وسنن علم الاجتماع القرآني… كل ذلك وغيره من عناصر النهضة يمكن لجميع المذاهب الإسلامية وغير الإسلامية أن يستفيد منه. وسريان روح النهضة إلى سائر العالم الإسلامي لن يجعله تابعاً لإيران، فألمانيا وسائر دول أوروبا استفادت من الثورة الفرنسية، ولكنها لم تصبح تابعة لفرنسا، لأن الروح الثورية الواعية القائمة على رؤية عميقة للإنسان تجعل الشعب عصياً على الخضوع والتبعية؛ وكذلك لو سرت الحيوية النهضوية إلى سائر العالم الإسلامي لتأسس اتحاد إسلامي قادر أن يقدم الإسلام نموذجاً حضارياً عالمياً.

الدعوة إلى الإسلام لا تكون دعوة عالمية إلا من خلال نموذج حضاري متفوق تشعر شعوب العالم بحاجتها إليه، أما تأسيس مراكز للدعوة الإسلامية في بلاد الغرب، وتمويل هذه المراكز، فمهما بُذِلت فيه من جهود وأموال لن يتعدى ذلك الدعوة الفردية، ولا يمكن أن يقدم الإسلام كرسالة عالمية.

الخطاب العالمي يتحقق بالنموذج الحضاري المتفوق، ولدينا اليوم عينة من هذا النموذج في إيران، حيث قامت سلطة إسلامية لديها منظومة متكاملة من الثقافة والفلسفة والفكر والعلم والرؤية والوعي والقدرة، يمكن لهذه العينة أن تتحول إلى نموذج حضاري عالمي متفوق إذا انفتح العالم الإسلامي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا الانفتاح يعطي قوة للجميع، ولا يجعل أحداً تابعاً للآخر.