وهم الندرة يقود الاقتصاد العالمي

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، انتشرت في الأردن ظاهرة قطع المياه عن المشتركين عدة أيام في الأسبوع وتوزيع المياه على الأحياء مرتين أسبوعياً

2023-09-26

ترافقت تلك الظاهرة مع زيادة عدد خزانات المياه على أسطح منازل الميسورين، وتخزين المياه في عبوات مختلفة الأحجام في منازل المواطنين العاديين. أخبرونا يومها أن الأردن يعاني ندرة في المياه، وأن النظام الجديد هدفه التحكم في توزيع المياه بعد الزيادة الكبيرة في عدد السكان والتوسع العمراني وندرة المياه في بلد يعتبر من الأفقر في العالم مائياً. يومها، كان عدد سكان الأردن نحو مليون و250 ألف مواطن.

اليوم، وبعدما وصل عدد السكان إلى أكثر من 11 مليون إنسان، ما زلنا نسمع القصة نفسها عن ندرة المياه، هذه المرة ليس لتبرير توزيع دور المياه على الأحياء، لكن تحت شعار تحرير أرضنا ومياهنا، كما حدث في اتفاقيات وادي عربة سيئة الصيت أو لتمرير اتفاقية تطبيع مع العدو الصهيوني، مثل اتفاقية المياه مقابل الطاقة التي يتم تفعيلها بين الأردن و”إسرائيل” برعاية الإمارات.

الندرة، بحسب “النيات الحسنة” للتعريف العلمي لهذا المصطلح، تعني الموازنة بين رغبات الإنسان غير المحدودة والإمكانات المادية (وأحياناً غير المادية) المحدودة. تحقيق هذا التوازن يفرض على المجتمعات والدول تبنّي سياسات اقتصادية واتخاذ إجراءات عملية تنفيذية للحفاظ عليه.  ولأن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنيات الحسنة، فهذا التعريف المبسط قاد البشرية عبر تاريخها إلى أسوأ أزماتها وحروبها ومجازرها، والهدف هو الحفاظ على التوازن المزعوم. جاء الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث ليضع نظرية تؤمن تنظيم التوازن بشكل ذاتي، هي نظرية العرض والطلب كأساس لاقتصاد السوق الحر، وضمنها في كتابه الشهير “بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها” (1776) الذي سيصبح كتاب الرأسمالية المقدس.

لعل أهم المجازر التي ارتكبتها البشرية تحت شعار تحقيق التوازن بين العرض والطلب هي تلك التي يسبغ عليها مصطلح عصر اكتشافات الجغرافيا، الذي كان في حقيقته عصراً استعمارياً ارتكبت خلاله أبشع المجازر بحق البشر بهدف نهب ثروات الشعوب والسيطرة على أراضيها لضمان حركة التجارة التي تؤمن المزيد من الأرباح للتجار في الدول الأوروبية.

لقد فاق عدد من قتلوا من سكان أميركا الشمالية الأصليين خلال استعمار بلادهم عدد ضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية. هؤلاء السكّان الذين تصوّرهم هوليوود مجموعة من البدائيين يركبون الخيل من دون سروج ويصرخون من دون سبب قدموا للعالم نبتة التبغ التي كانوا يستعملونها في طقوسهم الدينية، وحوَّلها المستعمرون إلى تجارة تدر اليوم أرباحاً لا تقل عن 800 مليار دولار سنوياً.

رغم المنطق الذي يبدو عليه فهم الندرة على أنَّها مرتبطة إلى حد كبير بمحدودية المصادر الطبيعية ونزوعها نحو النفاد في حال الاستخدام غير المتوازن، فإنَّ الواقع يخبرنا أن الندرة الحقيقية ليست سوى وهم تصنعه المراكز الرأسمالية للتحكم في الأسواق من خلال التحكم في العرض أولاً، والأسعار ثانياً، والأرباح أخيراً. هذه المراكز قادرة من خلال الشركات الكبرى على صناعة الندرة من خلال تقليل العرض، سواء بزيادة التخزين أو تقليل الإنتاج بالنسبة إلى المنتجات المحلية أو اصطناع الأزمات والحروب للحد من تدفق البضائع الآتية عبر الحدود (الاستيراد).

إذا اعتبرت الدوائر الاقتصادية العالمية منتجاً معيناً يقع في دائرة الندرة، فإنها تجنّد كل وسائلها الإعلامية والإعلانية وثقلها الاقتصادي لتحوله إلى حاجة ملحة. لذلك، نجد الطوابير الطويلة تصطف أمام مركز مبيعات شركة “آبل” لشراء النسخة الجديدة من تلفون “آيفون”، الذي لا يختلف عن سابقه إلا بعدد الكاميرات أو زاوية التصوير المتاحة.

رغم التناقض المفترض بين مفهومي الندرة واقتصاد الوفرة (اقتصاد ما بعد الندرة) الذي يحقق عرضاً أكبر للسلعة بأسعار أقل، ويعتمد في ذلك على توفر التقنيات المعقدة والإنتاج الكمي، فإن السياسات الاقتصادية الرأسمالية ناقضت هذا المبدأ، فالمنتجات الجديدة تطرح بأسعار أعلى من الأجيال السابقة للمنتجات. وتجنباً لانخفاض الأسعار، تُفرض شروط كالتعرفة الجمركية والرسوم الخاصة وحظر الاستيراد، وأشهر الأمثلة عليها صناعة السيارات.

أضافت الرأسمالية مفهوم الندرة الاجتماعية التي تربط السلعة بحالة اجتماعية معينة. مثلاً، شراء سيارة “تويوتا” من نوع “كامري” يُصنف المشتري اجتماعياً ضمن الطبقة الوسطى، في حين أن شراء سيارة “لكزس” التي تنتجها الشركة نفسها بالمواصفات الميكانيكية نفسها التي تحملها “كامري” مع إضافات في الشكل، يُصنف المشتري ضمن الطبقة الاجتماعية الثرية (الطبقة الأعلى). مفهوم الندرة الاجتماعية ينطبق على جميع السلع المرتبطة بالعلامات التجارية العالمية التي تعتمد عليها لتسويق سلعها وتحقيق أرباح أقل ما يقال عنها إنها خيالية.

هذا وسوقت الرأسمالية الكثير من الأوهام واستغلتها كأسلحة لتدمير الشعوب والاستيلاء على ثرواتها. إن كنا شهدنا عقداً من ارتكاب الجرائم بحق الشعوب تحت شعار جلب الحرية والديمقراطية، فإن مصطلح الندرة وما بُني عليه من سياسات يبقى الوهم الأكبر والأخطر الذي ندفع ثمنه، بدءاً من رشفة الماء النقي التي تحرم الرأسمالية أكثر من ثلث العالم منها، مروراً بالغذاء الذي استولت على كل سلاسل إمداده، وحبة الدواء المقتصرة على الغني القادر على دفع ثمنها، والتقنية التي تحرم منها الشعوب تحت طائلة العقوبات، وحتى دماء أبنائنا التي تسفك في حروب الرأسمالية لترسيخ كل تلك الأوهام.

المصدر: الميادين/ عماد الحطبة