بقلم عيسى الشارقي
يخدعك جمال البلاد إذا نظرت إليها من أعلى، جبال شامخة، وأودية منحدرة، وأشجار باسقة، أو صحارى نقية، أو بيوت متجاورة، وشوارع كالشرايين، هكذا تبدو البلدان ولكن من فوق فقط، فما أن تدخلها حتى يصدمك الواقع، فالجبال الشاهقة هي رعناء خشنة في آن، والأودية السحيقة هي جروف على حافة الانهيار أيضا، والبيوت المتجاورة قد تكون متهالكة البناء، والشوارع أزقة تملؤها القمامة، ويطنطن في أنحائها الذباب، ويتسكع على جوانبها العجائز والعاطلون، والأشجار الخضراء ما هي إلا أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، والجو حار أو رطب أو قارس، والحشائش شوك، فما تراه عن بعد غالبا ما يكون بعيدا عما تلمسه عن قرب، فالشيطان قابع في التفاصيل.
الناس هم كذلك مثلها، فقد تراهم مجتمعين في المجالس متجاورين يتجاذبون أطراف الحديث، فتظن أن قلوبهم متجاورة كأبدانهم، ولكن ما أن تقترب منهم أكثر حتى تكتشف أن بين الواحد منهم والآخر بونا شاسعا، ربما من الحسد أو البغضاء أو التنافس أو الاستثقال أو التعيير، ولو فتشت ما بين أسنانهم بمنظار الوعي لوجدت آثار لحومهم بينها كثير، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.
المجلس نفسه قد يكشف لك علل مجتمعهم، فللثري منهم موضعه وأما الفقير فبلا موضع، هذا له العزة والسمو وذاك له الذلة والمسكنة، المال بينهم كالماء لا يجري إلا بواجب الارتفاع والانخفاض، وأما في المساواة فراكد، الفقير خلى من عزة العفة، والغني خلىّ من رفعة التواضع. وكلام كل واحد منهما يقاس بميزان الغنى لا بميزان الصدق، خطأ الكبار صواب، وصواب الصغار خطأ، إلا أن يؤمّن الكبار عليه.
البيوت تراها فيعجبك حسن بهائها ، وتظن أن العائلة سعيدة، وربما التعاسة إدامهم بالليل والنهار،فهم تعساء ببهاء بيتهم هذا الذي كلفهم سنين من عمرهم غارقون في الدين، لتنقضي زهرة عمرهم وهم ينتظرون الفرج في خلاص الدين، وضيق العيش، هذا إذا لم تكن جحيم الخلافات الزوجية تحرق أخضرهم ويابسهم.
“المجتمع المدني نشط وفعال” هذا ما يقتضيه العدد الضخم والمتنوع من جمعياته ومؤسساته، أليس كذلك؟ ولكنك لو فتشت عن الفاعل العامل منها لم تجده شيئا، ولو بحثت عنها لما وجدت لأكثرها من عهد، ولوجدت أكثرهم كاذبين: قالوا ولم يفعلوا، فلا هم يجتمعون ولا هم يضحون بالمال والوقت، ولا هم يملكون المعرفة في كيفية تنفيذ ما عزموا عليه، ولا هم يملكون العزم على المواصلة. ولو زرت وزارتهم لافتخرت لك وأنت الضيف الغريب بالعدد الكبير من الجمعيات التي ترعاها وترشدها وتعينها وتوجهها، ولكنها لن تقول أنها تراقبها وتحصي أنفاسها، وتتهددها وتتوعدها وتخنقها.
من بعيد هناك برلمانات في الدول العربية، بعضها معيّن والكثير منها منتخب، البرلمانيون يمثلون رأي الشعب وهم السلطة التشريعية وسلطة المراقبة على الحكومة، ولكن الحقيقة لا تختلف في المعيّن عنها في المنتخب، جلّ الأعضاء من لون واحد مرسوم وقادم من انتخابات لا تختلف عن التعيين إلا شكلا، فأعضاء البرلمان هم أعضاء الحزب الحاكم وأصدقاؤه ومريدوه، أصحاب الذيول الملتفة، الباحثون عن المصالح، فئات من رجال الجيش ورجال الشركات الفاسدة ورجال العوائل الميسورة ورجال الدين والمفكرون والإعلاميون المغردون في جوقة الحكومة والرئيس، وقد تبلغ درجة ذوبانهم في قول الرئيس حدّ الفضيحة، فالتصويت فيها علنيّ يتمّ برفع الأيدي وعين النواب كلّها على كفّ مخصوصة هي علامة البدء عندهم وكأنهم في نشيد وطني أو عرض عسكري!
الصحافة حرّة والدليل على ذلك عدد الصحف وتنوّع الكتّاب وانتقادهم للحكومة بل ربما الرئيس، وتأييدها المزمن للحكومة والرئيس وتأمينها المستمر على أقوالهم وأفعالهم، وعدائها المفرط لخصومهم في الداخل والخارج، نابع عن قناعة بمشاريعها ونزاهتها ليس إلا، فهي وإن كانت تقبض المعونات وتنشر فيها الإعلانات وتفهم ما يراد منها ولو بالإشارة، إلا أنّ هذا لا يدلّ على عدم حريتها!.
ولو دقّقت في الأمر ونزلت للقاع لوجدت أنّ الحرية الظاهرية إن توفرت في بعض الأوقات فإنّها مجرد حالة عابرة لقضاء حاجة، وإلا فالقانون المنظّم للصحافة هو دائما مستبد ومحاصر للحرية، فلو كانت الحالة صحية ومرادة لبدأت بتغيير القوانين، ثم ستجد أنّ رؤساء التحرير معينين أو شبه معينين، وأنّ كلّ الحريات المزعومة سيتبين زيفها في أوقات غضب الحكومة على قوم أو فئة، عندها سترى الأقلام سيوفا لا تُرحم، عندها تظهر للغشيم ساعة الحقيقة.
قِسْ على مثل هذا فئات الناس من سياسيين حزبيين وغير حزبيين ومن وجهاء ومن أثرياء، لا بل وحتى الفقراء والثوار وأهل الجهاد، فإذا نظرت لأمرهم من بعد فسيغرك منطقهم ومظهرهم، ولو اقتربت منهم ومحصتهم بالتجربة فسيخيب أملك في أكثرهم ولن تجد شريفا في الناس إلا القليل ممّن رحم ربك فهوّن الدنيا في أعينهم، فهذا زمان الزيف نحن نعيشه.
أ.ش