هَذَا مَا تَرَكوهُ خَلْفَهُمْ،
دُرُوعٌ، وَخُوذاتٌ، وَأسْماءٌ مُتْعَبَةٌ،
وَشَائِعَةٌ عَنْ سَفِينَةٍ غَرِقَتْ فِي حَدِيثٍ عَاِئِليٍّ
دُونَ أَنْ يَنْتَبِهَ أَحَدٌ.
هُنا يَحْتَشِدُ الْقَتْلَى بِلَا عَناوينَ،
إعلان
وَلا أَرْقَام وَلَا حتَّى مَرَايَـا يَرَوْنَ فِيها أَرْوَاحَهُمْ.
هكذا استهل الشاعر والإعلامي المغربي محمد أحمد بنيس أمسية شعرية بدار الشعر بمدينة مراكش، بمناسبة اليوم الوطني للإعلام (15 نوفمبر/تشرين الثاني)، تخللتها حوارات حول حضور فلسطين في المتخيل الشعري المغربي أدارها الشاعر والناقد المغربي عبد الحق ميفراني، وفرضها سياق “حرب الإبادة” التي ما زالت تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الثاني.
يقول بنيس بنبرة حزينة، رافقته أيضا خلال كل حديثه أمام الجمهور “لا يملك الشاعر في اللحظات التي نعيشها غير الكلمات التي تولد من رحم الألم والغضب، ألم موت الأبرياء دون ذنب وغضب من سلوك وحشي لعدو غادر”.
فلسطين شعرا
في تلك الأمسية، حضرت أسماء شعراء مغاربة حملوا هم القضية، وكتبوا “فلسطين شعرا”، ساروا بها نحو ضفاف الإبداع، مخلدين أسماءهم على صفحات ببليوغرافية الشعر العالمي.
يقول الناقد المغربي عبد اللطيف السخيري إنه منذ النكبة إلى هذه اللحظة، لم تفارق فلسطين المتخيل الشعري المغربي، “بل ظل جرحها نازفا في تجارب الشعراء على اختلاف أشكال الكتابة التي اتخذوها مَهْيَعا (طريقا)، وعلى تبايُن خلفياتهم المعرفية والأيديولوجية. تحضُرُ بجغرافيتها الجريحة، وبأسماء مُدنها وحواريها، وبرموزها التاريخية وأسماء أعلامها وشهدائها… فهي غصن الزيتون المقصوف، والحمامة النازفةُ أمام بنادق الاحتلال، والأم الثكلى التي تحضن الأرضَ كي تُقبِّلَ ابنها الشهيد الذي عانقتْهُ أرض الجليلِ…”.
ويضيف السخيري أن شعراء الحداثة الشعرية بالمغرب كان لهم الحظ الأوفر من استحضار فلسطين في متخيَّلهم الشعري، خاصة أنهم جاؤوا بعد النكسة 1967، واعتنقوا المدَّ القوميّ الذي كانت فيه فلسطين هي القضية الأسمى (نذكر هنا قصيدة “القدس” لأحمد المجاطي مثلاً).
والآن، وإن انحسَرَ المد القوميُّ، وحاول أكثر الشعراء الابتعاد عن الأيديولوجية في كتاباتهم، فإن كَمَّ ما كُتبَ ويُكتَبُ حولها، ما يزال في اطراد، حسب قوله.
جنبا إلى جنب
حين نطرح “كيف تسير القصيدة مع السلاح جنبا إلى جنب في مقاومة المحتل؟”، يأتي الجواب من الناقد المغربي السخيري، إذ يستند إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز من أن الفنَّ في جوهره مقاومة.
ويؤكد المتحدث ذاته أن الشعر من الفنون التي رافقت الإنسان منذ فجر تاريخه، وما يزال، وخاصة في لحظات الاضطهاد والاحتلال وسلبِ الحريات، حيث يحضر الشعر إلى جانبِ السلاحِ لتحقيق فعل المقاومة، هذا الفعل الذي يستلزمُ الكلمةَ كما يستلزمُ الرصاصة.
ويعتبر أنه إذا كان عمر الرصاصة محكوما بسرعة وصولِها إلى الهدف، فإن الكلمة/القصيدة تستمرُّ انطلاقتُها دون حدود زمنية، تؤثر وتُخلد، وتواصل تذكير الغاصبِ بعُقمِه الإنسانيّ، وتذكير المُضطَهَدِ بِعُمْقِه الإنسانيّ.. ويختم “الآن، يُواصلُ لوركا، وناظم حكمت غناءهما ومقاومتهما، جنبا إلى جنب مع درويش وسميح القاسم وممدوح عدوان… وغيرهم”.
فيما يرى محمد أحمد بنيس أن القصيدة تشكل أفقا للمقاومة والتحرر والوقوف في وجه الظلم، مبرزا أن القضية الفلسطينية قبل أن نكون قضية سياسية، هي قضية أخلاقية، مما يجعلها تمثل للشعراء أفقا لاستحضار القيم الإنسانية النبيلة.
في تلك الأمسية أيضا يستحضر الناقد والشاعر عبد الحق ميفراني أغنية “شدوا بعضهم أهل فلسطين”، مبرزا كيف أصبحت تلك المرأة العجوز، بكلمات بسيطة ومؤثرة، رمز مقاومة، بل وشفاء لجراح النفس والبدن، يحقن فيه ما يحتاجه من صمود.
“لا تصالح”
يمتد ذلك التذكير بالقصيدة، وتلك الانطلاقة للكلمة من عمق الإنسان إلى مقاومة كل تطبيع ثقافي يريده العدو بوابة لغسل الأدمغة، ومحو آثار جريمته على مدار العصور.
ويقول السخيري إذا كان التطبيع السياسي والاقتصادي قد أصبح واقعا لا يرتفِعُ، فإن الحقلَ الثقافي يبقى هو آخر معاقلِ المقاومة ضد التطبيع.
فلا يمكن بأي حالٍ من الأحوالِ أن نجعلَ الشاذَّ وغير الطبيعيّ طبيعيا، نمرُّ عليه بوعي سادِرٍ، وذاكرةٍ قصيرةٍ لا ترى دماءَ الأبرياء نديةً على أيدي القتلة، ولا تسمعُ صرخات الألمِ بين سطورِ كتابتهم.. سبقَ أن أوجزَ أمل دنقل كل هذا في عبارته السائرةِ: “لا تُصالح”.. يجب أن تبقى الثقافة حصنا يُذكِّرُ الساسَةَ أن حساباتهم لن تستقيمَ إلا في هَندسةِ الخيانة.
فيما يؤكد الشاعر والإعلامي المغربي عبد الحق بنرحمون أن الكلمة في القصيدة تشبه نصل السيف في ميدان المعركة، غير أنها تخاطب النفس البشرية، وتزرع فيها الحماس والشعور بالصمود النفسي أمام ما نراه يوميا في الحرب على غزة من مجازر دمرت كل الأعراف الإنسانية، مقابل ما تسطره المقاومة بمداد من فخر.
ويضيف أن الشعر ضرورة إنسانية نحتاجها في كل اللحظات، ذلك أن كل الناس شعراء بعواطفهم وفطرتهم، يجدون في الكلمة ما يحرك فيهم كل ذلك، ويدفعهم إلى جانب الشعراء المبدعين إلى التشبث أكثر بإنسانيتهم التي يحاول العالم أن ينسيهم فيها.
أما بنيس فيشير إلى أن ما يحدث الآن أمر مروع ومذبحة مفتوحة، وأن أي كلمة تحتاجها القضية، مبرزا أن الإعلامي الشاعر، ينظر إلى الحدث من نافذتين مختلفتين، ذلك أن تغطيته تفرض عليه متابعته عن كثب، فيما يحتاج من أجل كتابة قصيدة الى “مسافة” من أجل التأمل وبلورة الاختيار الفني، لإيجاد ذلك التوازن بين ما هو فني وما هو موضوعي.
يد على الزناد
الجنود العائدون من الحرب هذا الصباح، بلا خوذات
غرسوا ظلالهم في الرمل
بلا أضواء
أو جزمات
أو نياشين
مروا
ولم يلقوا التحية….
قال الصبي وهو يفرك عن عينيه ضباب حلم طويل
ثم عاد إلى حضن أمه
قطف نجمتين
ونام.
هي مطلع قصيدة ” خوذة بنصف رأس”، شدت بها الشاعرة والإعلامية المغربية حفيظة الفارسي أنفاس جمهورها، وهي تحكي عن الحرب في تلك الأمسية الشعرية.
تقول الفارسي إنها قصيدة بلسان جنود حاربوا على جميع الجبهات في المغرب وفي العالم العربي، لكنهم الآن يعيشون الخيبات في واقع متغير وأمام تهلهل القيم، قبل أن تستطرد أن المقاومة في فلسطين هي استثناء في العالم لكل ذلك، فأهل فلسطين لم ينسوا يوما قضيتهم، لا شعبا ولا أجنحة سياسية أو فدائية.
وتبرز أن شعلة الارتباط بالوطن تلازمهم طيلة سعيهم لاستعادة أرضهم، وقد اعتقد البعض أنها خبت نوعا ما وانطفأت، لكنهم فوجئوا أن الفلسطيني مستعد ويده على الزناد وقلبه على الوطن، وهي جذوة تجعل الشعراء يستعيدون الثقة، ودورهم في نشر الوعي بالقضية وبكل القضايا العادلة في العالم.
أ.ش