أمية جحا تكتب:

يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنبر الولادة القيصرية

لن تشيخ غزة، ولن تصبح عقيما، ستبقى ولوداً ودوداً، تنجب خيرة الأبطال والأفذاذ في كل الميادين.

2024-04-16

وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الـ10 أجزاء والتي ننشر اليوم 4 أقسام منها الأولى، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الصهيونية على غزة، لا سيما محيط مستشفى الشفاء، والذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه “منطقة موت”.

وجاء في الحلقة الأولى من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته، والسيدة تحب القطط والعصافير والجيران، وترسم اللوحات، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024) وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

كان يوما مستكملاً لغيره من الأيام. قصف نسمعه عن بعد، أو عن قرب في كل مكان. عندما تقترب شمس النهار من الرحيل، نردد ببؤس: جاء الليل وهمه، إذ كان القصف يشتد ليلا، فلا يكاد ينام صغير أو كبير، إلا ويقفز من فراشه مذعورا، لقد كنا كلنا نكره حلول الليل، وكان أولاد إخوتي الصغار ينكمشون في أحضان أمهاتهم، ليزداد شعورهم بالأمان.
كان المذياع ينقل أخبار المجازر المتتالية لعوائل كاملة، فنخشى أن نلقى المصير نفسه، كلما كنت أسمع عن مجزرة ما ويكون عدد الشهداء والجرحى بالعشرات، كنت أشتعل غضبا وحرقة. أين المسلمون من كل ما يجري في غزة؟ كيف تغمض لهم أجفان ودماء شعبنا تراق؟

عشرات العائلات غادرت الحي الذي يقطنه أهلي، وكنت أنا قد لجأت للعيش في بيت أهلي بعدما قام الاحتلال بتدمير برج زغبر في حي النصر، والذي توجد فيه شقتي، في أول أيام الحرب.

كان أول برج يدمّره الاحتلال، لم يتركوا أي فرصة للسكان لأخذ مقتنياتهم الهامة، خرج السكان سريعا يفرون بحياتهم وحياة أطفالهم، كنت أول الساكنين في البرج منذ فبراير/شباط 2002، وفيه أنجبت ابنتي الوحيدة نور، كم كان يحوي هذا البيت من الذكريات؟

كنت أمتلك مكتبة كبيرة تحوي مئات الكتب والمجلدات الهامة في شتى المجالات، فضلا عن المئات من قصص ومجلات الأطفال، التي كنت أحتفظ بها منذ طفولتي، وفيها أرشيف أعمالي الأصلية المخزنة في عدة “هاردات” على مدى ثلاثين عاما، وجوائز ودروع وشهادات تكريم محلية وعربية ودولية، كلها دفنت تحت ركام خمسة طوابق، تم تدميرها وتدمير شقاء أصحابها في ثانية واحدة.
كل يوم يمر، كانت تتناقص فيه فرص بقاء الأمن في بيت أهلي، قطع الاحتلال الكهرباء بشكل تام منذ بداية الحرب، وحال ذلك دون إيصال الماء إلى الخزانات على أسطح المنازل، مما يعني مأساة بيئية في كل بيت، حتى العربات التي كانت تزود البيوت بمياه الشرب المفلترة ما عادت تعمل، باعة الخضروات المتجولين ما عدنا نسمع أصواتهم في الطرقات.

والأطفال الذين كانوا يلعبون الكرة ويملؤون المكان ضجيجا بأصواتهم، تركوا الكرة ورحلوا مع عائلاتهم، قطط الشوارع الجائعة كانت تتجمع حول أكوام القمامة المتراكمة، تبحث عن الطعام.

كنت أسمع صوت قطة تموء طوال اليوم، تبيّن لي فيما بعد أنها كانت تبكي صغيرتها الميتة، بقيت تموء قربها لساعات طويلة، ثم تلاشى الصوت، ربما رأف أحد المارة بها فدفن صغيرتها، تذكرت قطتي وصغارها الثلاثة في بيتي الريفي المتواضع البناء في منطقة التوام شمالي القطاع، وتذكرت مزروعاتي ودجاجاتي العشر، كنت أضع الماء الوفير في كل زاوية قبل الحرب، في فترة الحر، حتى أكسب ثواب إسقاء العصافير والقطط الأخرى التي تزور المكان بين الفينة والأخرى.

تم تدمير هذا البيت أيضا بكل ما يحيطه من مشاريع سكنية حديثة، وتم تدمير أبراج نايف الثلاثين، التي أنشئت بتمويل وإشراف سعودي، هذه الأبراج أنشئت خصيصا لمن تم تدمير بيوتهم في حرب 2014، تم تدمير الأبراج على مراحل، ولعدة أيام، على شكل أحزمة نارية، كنت أسمع صداها وأنا أبعد عنها مسافة ثلاثة كيلومترات، كان صوت السيارات التي تقل جيراننا إلى خارج الحي منذ الصباح الباكر، تجعل خوفنا يتصاعد، فالعيش بغير جيران، وفي أجواء الحرب، أمر موحش جدا.

بقيت أمي مترددة في أمر الخروج من البيت، لأنها لا تخرج إلا بالكرسي المتحرك بعدما أجرت عملية الغضروف في ظهرها، بعد أذان العصر مباشرة، ارتج شمال القطاع بأسره إثر قصف الطيران الحربي مربعا سكنيا يمتد ما بين تقاطع شارع اليرموك مع منطقة الغفري، مرورا بشارع الجلاء، بقرابة عشرة صواريخ مدمرة متتابعة على شكل حزام ناري ضخم.

اعتقدنا حينها أن الطيران سيقصف الآن لا محالة المربع السكني الذي نقطنه، أصوات سيارات الإسعاف وسيارات الدفاع المدني لم تتوقف، يبدو أن مجزرة مروعة تمت في المكان المستهدف، صار قرار النزوح الآن حاسما، ودون تفكير خرجنا من البيت ومن تبقى في الحي، نكاد نطير هرولة، هائمين على وجوهنا، نحمل بعضا من أمتعتنا الخفيفة الهامة، متجهين صوب مشفى الشفاء.
أهم ما يحمله النازح في حقيبته مفتاح بيته والشهادات والهوية الشخصية الخاصة به وبأولاده، وما يحمله من مال أو ذهب زوجته، وما خفّ من الملابس، حتى لا تشكل ثقلا عليه، إن دعته الظروف للهروب السريع.

أما إن كان يخطط للبقاء في المكان الجديد، فإنه يحمل بعض الفرشات والمخدات والأغطية، كان شارع الجلاء من الشوارع الجميلة الواسعة، يبلغ عرضه قرابة 24 مترا. وعلى جانبيه البيوت والبنايات الكبيرة والمحلات التجارية المختلفة والصيدليات، كما يتوسطه سطر طويل من الأشجار الكبيرة، التي تصنع ظلاً وارفا، وبيئةً خضراء تسر الناظرين.

بعد 18 يوما من بداية الحرب، تعرضت كثير من البنايات على جانبي الشارع إلى القصف والتدمير، وتبعثرت حجارة البيوت وأثاثها المهشم في عرض الشارع، وتوشحت الأشجار الخضراء الواقفة والمتساقطة بشال كبير من الغبار الرمادي الشاحب، في حين تمددت الأعمدة وأسلاك الكهرباء المقطوعة كجثث هامدة في عرض الشارع.

واجهات المحلات المغلقة كانت منتفخة للخارج كأنها حبلى من هول القصف والوجع الذي أصابها، حتى البيوت في الشوارع الفرعية، التي تربط شارع الجلاء بشارع اليرموك، طالتها يد القصف المباغت، فهدمت الأسقف والجدران فوق رؤوس أصحابها، وزجاج الشبابيك تفتت على الأرض وبات كأكياس الأرز المبعثر، حبال الغسيل المعلقة على الشرفات كانت لا تزال تحوي ملابس أصحابها، كل ألوانها باتت أسود.

كان الإسفلت في بعض أجزائه مشققا، تملؤه الشروخ العميقة، وكأن المكان قد تعرض لزلزالٍ مدمر، أي همجية ينتهجها الجيش الذي يدعي التحضر والإنسانية، فيضرب بيوت الآمنين من النساء والأطفال في بهيم الليل أو في وضح النهار، ودون سابق إنذار، هذه الحرب البربرية أثبتت أن الطفل الفلسطيني هو القوة العسكرية التي يخشى الاحتلال تعاظمها، الضربة الكبيرة كانت في منطقة الغفري، التي تبعد قرابة نصف كيلومتر عن بيت أهلي، وهو مكان يجب أن نمر به طالما أردنا الوصول لمشفى الشفاء.

لم نجد أي سيارة تسعفنا لنهرب من أي قصف إضافي محتمل.

كل السيارات تفر بسرعة الصاروخ، تحمل على ظهرها فراشا وأمتعة، وفي بطنها يتكدس أفراد العائلات، وكأنه يوم الحشر، الكل يريد الفرار، ما إن اقتربنا من منطقة الغفري حتى اتضح هول ما أصاب هذا المربع السكني الضخم من دمار، ليشمل البيوت الممتدة بين شارعي الجلاء واليرموك، عشرات الشهداء والإصابات والمدفونين تحت ردم البيوت.

كيف تقوى سيارات الدفاع المدني المتواضعة، التي يستهدف الاحتلال طواقمها أيضا، على رفع كل هذا الركام، وإيجاد الضحايا على عمق ستة طوابق في بعض البنايات، كبناية التاج في شارع اليرموك، والتي انطبقت أسقف طوابقها كلها على بعضها، كأنه لم تكن جدران وأعمدة تفصل بينها، سيارتان مسرعتان قامتا بإيصال عائلتنا كاملة، بعدما سرنا طويلا وسط الخوف.

في الوقت نفسه، لم تتوقف الطائرات الحربية والزنانات تمخر عباب السماء، نافثة رائحة الموت في كل مكان.

وصلنا لمشفى الشفاء، وكانت أول مرة أدخلها بعد الحرب، النازحون يفترشون كل سنتيمتر فيها، عائلات كثيرة صنعت من الأغطية خياما تقيهم شمس النهار وبرد الليل وتستر عوراتهم، وخيام أخرى خاصة بالصحفيين ووكالات الأنباء، وآخرون كثر بلا خيام ولا أغطية يفترشون واجهات مباني المشفى، وفي ساحاتها الخارجية روائح عديدة تنتشر في المكان، فهنا باعة القهوة والمشروبات الساخنة الأخرى، وهناك من يطهو الأرز بمرقة ماجي ويبيعها للنازحين، وهناك من يقلي الفلافل والبطاطس والبزر والفستق، وهنا يجلس باعة المعلبات من السردين واللحوم والبقوليات، وهناك يجلس باعة الملابس الخاصة بالصغار والكبار من كلا الجنسين، وهنا يفترش الأرض باعة الأغطية الشتوية، وهناك باعة حاجيات الأطفال.

وبين كل هذه الأزقة تتراكم أكوام القمامة ذات الرائحة الكريهة، فالبلدية باتت شبه عاجزة عن القيام بعملها في ظل استمرار القصف وتهديد سلامة طواقمها، أما المساحة الأخرى الأكبر فقد اكتظت بالأكفان البيضاء الملطخة بالدماء، منهم من هو معروف صاحبها، وكثير منهم من هو مجهول الهوية،، آثرت أن أبتعد بناظري عنهم، لقد آلمني حجم الفقد، لقد آلمني صوت حسرات الأهالي ونحيب الآباء.

توجهت إلى الطابق الثالث في قسم الولادة القيصرية، حيث كانت أختي بصغارها تنتظرني، سعدت أنني سأجد أناسا كثيرين، يخفف ضجيج أصواتهم هول صوت القصف، ونمت طويلا بعدما كنت أفتقد النوم لليال كثيرةٍ سابقة، نمت وأنا أعتقد أنني سأمكث يومين أو ثلاثة، وتنتهي هذه الحرب القاسية.

 

شارع الجلاء بغزة تعرض للقصف والتدمير واختفت ملامحه الجميلة وأشجاره الخضراء

وجاء في الحلقة الثانية من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته، وهي تحب القطط والعصافير والجيران، وترسم اللوحات، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024) وافترشت بلاطه البارد في انتظار النجاة.

استيقظتُ صبيحة يوم الخميس، قبيل صلاة الفجر، لم أضع المنبه كالعادة، إذ كان صوت القصف العنيف هو المنبه غير المحمود، انتفضت سريعا من فراشي وجلست.

صدمت بمشهد النيام يملؤون المكان!. أطفال وصبايا ونساء وعجائز، المغطى منهم وغير المغطى، فيما تزكم الأنوف رائحة حرق القمامة المتراكمة خارج المشفى، كلهم نيام إلا قلة مستيقظة من النساء، ما أقسى أن يجتثك الخوف والقهر من الخذلان العربي من بيتك وسريرك، لتفترش بلاط أرض المشفى وبلا غطاء!! كان نوم الأطفال يعني لا ضجيج، لا بكاء، ولا صراخ، وحمامات متاحة بلا زحام ولا طابور، وربما تفوز بسويعات أخرى من الراحة والنوم.!

كانت السيدة التي تنام بقربي قد فقدت أختها وبعضا من أولادها شهداء في الحرب، كانت تحرص على النظافة. وتحرص على أن تجعل صغارها ينامون متقاربين بانتظام، كان طفلها الصغير يخشى أصوات الصواريخ، نوبة خوف أصابته أول أيام الحرب، جعلته يعانى الحمى، مما جعل البثور تنتشر خارج جسمه، كانت تحرص على إعطاء الدواء له، وعلى تهوية جسمه بقطعة من الكرتون المقوى.

أما العائلة التي قبالتي فكانت تحوي من قصص الفقد الأليم ما تحويه. الأم لا تزال تعيش على أمل أن تأتيها البشرى بأن ابنها الذي يقطن في برج التاج، والذي تم قصفه يوم الأربعاء في مجزرة اليرموك، لا يزال حيا. تفتح جوالها بين الحين والآخر، تنظر إلى صوره، فتصاب بنوبة من البكاء الأليم! كان أفراد من العائلة يعلمون أنه قد استشهد، لكن أحدا لم يجرؤ على إخبارها بذلك! ابنتها أيضا فقدت زوجها شهيدا قبل 10 أيام، تاركا لها ثلاثة من الأطفال الصغار!

بالجانب الأيسر مني تفترش الأرض عائلة هيام. صبية تزوجت منذ 5 شهور وحامل حديثا، تم قصف بيتها، بينما كان زوجها مسافرا لفترة قصيرة إلى مصر قبيل اندلاع الحرب بأيام. لجأت إلى بيت والديها، أمها تخشى عليها وعلى جنينها من رهبة القصف، قالت لي: ليتني أستطيع أن أخبئها هي وأخوتها في رحمي من جديد!

أختها سندس ذات الـ15 ربيعاً، وأصيبت بحصر في البول من الخوف! كانت دائمة الاهتمام ببشرتها، تضع كريماً مرطباً على وجهها ويديها، قبل وبعد النوم، حتّى أيام الحرب.

تتقاسم العائلات النازحة مساحة الطابق من صالة كبيرة وممرات، دون الرجال، فمنهم من حصل على مساحة متر ونصف متر مربع، ومنهم من حصل على مترين مربعين، ومنهم من أخذ من جنبات الطريق في الممرات مستقرا! بينما تتكدس الحقائب وأكياس الملابس والفراش في كل زاوية، مما يجعل من سير أسِرّة المرضى أمرا في غاية الصعوبة والإرباك، خاصة وأن النازحين نيام!

هذا الطابق مخصص للولادة القيصرية في مشفى الشفاء، ولكنه مع ذلك، صار يعج بجرحى الحرب! مشهدهم كان يدمي القلب.

يوجد حمام خاص لكل غرفة من غرف القسم، كل هذه الحمامات أصبحت للاستخدام العام من قبل النازحين. أنتظر ساعات المساء المتأخرة كي أحظى بفرصة دخول الحمام دون انتظار! دخلت إحدى الغرف، فوجدت صديقة لي بالصدفة، مرافقة لزوجة أخيها المصابة في الحرب، قالت لي “انظري إليها، لقد كنت دوماً أخبرها عنك”.

اقتربت منها وكانت مصابة بجروح بليغة، أحدها في دماغها، الذي تم استئصال جزء منه! وإصابة قاسية أخرى في عمودها الفقري، أمسكت زوجة أخيها بيدي بقوة، وصارت تقسم عليّ أن أدعو لها بالشفاء! كان كل جسدها يرتجف، ولا تستطيع السيطرة على حركته! ثم أشارت لصديقتي أن تريني إصابة ظهرها، كان المشهد مريعا، كأن ظهرها قد أصيب بزلزال جعل جلده ولحمه يتشقق بصدعٍ طولي، وتحيط به لفافات الجروح! لم أر في حياتي مثل هذا المشهد الصادم!!

بكيت، ثم مسحت دموعي سريعا، حتى لا تزداد المصابة يأساً وألماً، وخرجت وأنا أبتهل إلى الله أن يمن عليها بالشفاء العاجل.

قالت صديقتي بحزن “لقد أخبرنا الأطباء بأنها قد تُصاب بشللٍ نصفي دائم”! في الغرفة المجاورة لها، يرقد طفل وطفلة، كلاهما أصيب بكسور عدة، وحروق بالغة وتشوهات، اقتربت من الأم المكلومة، وقلت لها: أسأل الله أن يشفي لك طفليك، أجابت بحرقة “أنا عمتهم، أمهم استشهدت هي وباقي الأسرة! وهما لا يعلمان بذلك”.

تأثرت كثيرا، كلاهما كان يناديانها طوال الوقت ماما! قلت لها بألمٍ “إذن بقي من الأسرة ولد وبنت وفقط”! قالت بصوت منخفض “هذا ليس ولداً، بل بنت ولكن شعرها احترق بالكامل”! لم أعقب! ورحلت من المكان بصمت، وفي القلب غصةٌ كبيرةٌ! هل يستحق أطفال بعمر الورد كل هذه الأطنان من الصواريخ، لبترهم من عوائلهم، وتشويه ملامحهم!! أي بؤس أخلاقي يتسلح به هذا الاحتلال الجبان، وأي ثارات قادمة صنعها بيديه، وسيجنيها على أيدي هؤلاء الأطفال!!

عدت إلى مكاني، وتكورت على نفسي، وصرت أتخيل حجم الخوف الذي أصاب هؤلاء الجرحى، عندما هاجمهم الصاروخ الغادر في عتمة الليل!! كم مرة صرخوا مستغيثين بماما أو بابا!! وأي رعب أصابهم وهم لا يسمعون إلا صدى أصواتهم! ولا يشتمون إلا رائحة الموت!!

مرت عربة الحضانة عن يساري، كانت تحمل مولوداً، ولد للتو، كم كان جميلاّ! قالت الممرضة وهي تبتسم، اسمه يوسف. تمنيت تصوير المشهد، ولكن العربة مضت سريعا الى حيث غرفة الأم.

ميلاد يوسف جعل غبار الحزن ينقشع عن صدري، ميلاد يوسف هو ميلاد الأمل واليقين بأن هذا الشعب لا ولن يموت، ففي الوقت الذي يقوم فيه الاحتلال باستهداف النساء والأطفال بالقتل، يشاء الله أن يولد يوسف وغيره من عشرات الأطفال!.

لن تشيخ غزة، ولن تصبح عقيما، ستبقى ولوداً ودوداً، تنجب خيرة الأبطال والأفذاذ في كل الميادين.

مساء هذا اليوم كان ضجيج صوت الأطفال لا يطاق. لقد استمر هذا الوضع حتى ما بعد منتصف الليل. كدت أصرخ في الجميع أن اصمتوا وناموا، ولكن اختي أشارت عليّ بالصمت، وقالت غداً تعتادين الأمر، بل ستنامين أيضا وسط هذا الضجيج، وربما أشد منه!

نزحت أختي إلى المشفى منذ الأسبوع الأول للحرب، بعدما تم تهديد بيتها بالقصف! كنت أحزن لأجلها، وهي تتحمل أيضا مسؤولية 6 أطفال معها، بينما يكابد زوجها مشقة توفير الخبز والماء، منذ الصباح الباكر! نمت في ذلك اليوم وأنا أبكي.

لا أتخيل أنني سأحتمل ليلةً إضافيةّ في هذا المكان، ولا أتخيل أنه ستمر بي الأيام هنا، وأنني سأعتاد الضجيج والتقوقع في حيز ضيق جدا، من هذين (المكان) المترين المربعين، الذي يشاركني فيه 15 شخصاً! القصف لم يتوقف طيلة النهار، ولكنه في المساء كان أشد وأرهب!

أمسكت مسبحتي، وصرت أستغفر الله، لأزيل خوفي، وآثرت أن أضع رأسي على وسادتي وأهرب بروحي إلى ركام بيتي، أعيد بناءه من جديد، وأرتب ما تبعثر من أثاثه، وأنفض ما تغبّر منه بالتراب، وألتقط ملابسي وأغسلها وأجففها، وأنصب مرسمي ولوحاتي، ورحت في نومٍ عميق!!

 

كاريكاتير النزوح لأمية جحا

كما جاء في الحلقة الثالثة من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته، والسيدة تحب القطط والعصافير والجيران، وترسم اللوحات، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024) وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

الجمعة 27 أكتوبر/تشرين الأول

لم تتوقف الصواريخ، ولا صوت القذائف، من كل حدب وصوب منذ الصباح، في محيط مشفى القدس، والذي يبعد حوالي كيلومترين عن مشفى الشفاء.

كان الاحتلال قد قام بتهديد مشفى القدس عدة مرات بضرورة الإخلاء، لأنه سيتم قصفه، ورفضت إدارة المشفى الرضوخ للتهديدات.

لم يصدق أي أحد أن الاحتلال سيتجرأ على قصف أماكن مُحصنة بالقوانين الدولية الإنسانية، خاصة أنه لم يكد يغسل يديه الملطختين بالدماء من عار جريمته النكراء بحق مئات المدنيين النازحين في مشفى المعمداني.

دبّ الذعر والهلع في قلوب آلاف النازحين، الذين يفترشون أرض مشفى الشفاء، بعد تهديد الاحتلال للمشفى بالقصف أيضا، وبثه دعاية إعلامية بأنّ تحت المبنى تتمركز قيادة المقاومة العسكرية..

ولم يكتف الاحتلال بذلك الادّعاء الفاجر، بل قام كذلك بقطع شبكات الاتصال والإنترنت حتى لا يتمكن الناس من الاتصال ببعضهم بعضا، ولا ينقل للعالم الخارجي ما يحدث داخل القطاع. حتى توقع الجميع أن إبادة من تبقى من الشعب هي ما يخطط له الاحتلال عن سابق إصرار وترصد، وعن سابق صمتٍ دوليٍّ وعربي مشين. وربما يُقدم فعلا على قصف المشفى بمن فيه من عشرات آلاف النازحين والمرضى والجرحى..

كنت أخشى على أمي وأبي اللذين لم يرق لهما النزوح إلى المشفى بسبب سوء وضعهما الصحي، فعادا لبيت العائلة برفقة بعض أحفادهما الشباب. وكنت أخشى على ابنتي وزوجها القاطنين في معسكر جباليا، الذي يتعرض دوما للقصف الهمجي. لقد كانت رسائل الجوال وسيلتي الوحيدة في الاطمئنان، ولكن حتى هذه الوسيلة حظروها الآن عن كل سكان القطاع..

وعلى غير العادة، نام كل الأطفال باكرا بلا استثناء حتى الرضع، الذين كانوا يشكلون إزعاجا لا يُطاق في أرجاء المكان في وقت المساء. شعرت حينها وكأن الله قد آمنهم بالنعاس والنوم، فلم يستيقظ أحدٌ منهم مع أشدّ أصوات القصف عتيًّا..

كانت جدران المشفى تهتز مع كل صوت عنيف، وتبرق السماء بانفجار الصواريخ، في وقت تتعالى فيه أصوات الجميع بالدعاء والتضرع إلى الله. كنت أبكي بصمت. ما ذنب هؤلاء الأطفال والنساء ليتشردوا بهذا الشكل المهين. كان مشهدهم وهم نيام أشبه بجثثٍ لفظها البحر، فتوزعت بغير انتظام، بعضها فوق بعض. وبعضهم يغط في سباتٍ عميق في أحضان أمهاتهم. كيف ستُمحى هذه التغريبة من ذاكرتي؟

كان الممرضون في محطة التمريض يقومون بتهدئة الخائفين، لم أجد أصبر منهم مع كل هذا الازدحام، الذي تمدد إلى مكتبهم أيضا. فقاموا بتخفيف الإنارة حتى يهدئوا من روعنا، ولكن سيدة في الثلاثينيات من عمرها، تُدعى ثائرة، استبدّ بها الخوف، صارت تبكي بشكلٍ هستيري، تريد إشعال الإنارة، وتمّ لها ما أرادت. رغم أني كنت أتمنى إطفاءها حتى لا يستيقظ الأطفال النائمون.

وثائرة هذه كان لها الكثير من المواقف المضحكة، فما من مشكلة تحدث في المكان إلا وتثور وتدخل فيها بقوة، تريد تهدئة أطرافها، ولكنها سرعان ما تخرج منها وهي تبكي بعدما يقوم أحد الأطراف بشتمها أو ضربها. حتّى إنّنا صرنا نستحلفها أن تلوذ بالصمت، ولا تحشر نفسها إن حدثت مشكلةٌ جديدة حتى لا تلقى المصير ذاته..

كان في المشفى أيضا طاقم طوارئ من النساء والرجال، يضعون شارة خاصة على صدورهم، ويترددون طوال الوقت بين النازحين، يبثّون الطمأنينة فيما بينهم، ويزيلون الخوف الذي استبد بالكثيرين منهم بسبب قوة القصف وقربه من المشفى.

لقد اجتمع علينا سواد الليل، وشدة القصف، والانقطاع الهاتفي، والانعزال عن العالم، ولم يبق لنا سوى الله، نبث إليه غربتنا وخذلان أمتنا. فليس لها بعدُ من دون الله كاشفة.

ومع تعالي صوت القصف وقربه، صار كل من في العنبر يتضرع إلى الله، وقامت إحدى السيدات بإلقاء كلمات التثبيت ورفع المعنويات، وضرورة زيادة الايمان بالله، وكثرة الاستغفار، مما كان لذلك دورٌ كبير في بسط السكينة في المكان، إلى أن خفّ القصف تدريجيا وابتعد، وتوقفت الأحزمة النارية التي كانت تضرب بضراوةٍ قريبا من المشفى.

لم أبرح مساحتي الصغيرة على الأرض، وخلفي الكثير من الحقائب والأكياس، وحولي عشرات الأنفاس والأجساد الصغيرة والكبيرة، وعلى يميني شباكٌ كبير بعرض سبعة أمتار وبارتفاع مترٍ ونصف المتر تقريبا، يطل على السماء الفسيحة، التي لم تكن تحوي نجوما، بل كانت وحدها طائرات الاحتلال الحربية الطاغية تحوم بعنف، وتقذف قنابل مضيئة في الفضاء، لا لتنشر النور للقطاع، الذي قُطعت عنه الكهرباء منذ أول الحرب، بل لتبحث عن فرائس جديدة، من أجساد البيوت والأبرياء، لتحيلها ركاما وأشلاء..

وضعت كلتا كفي وسادة لرأسي، وسبحت في دموعي الحرى، ودعائي أن نصل شاطئ الأمان حيث لا حرب ولا خوف ولا نزوح ولا احتلال يقتل أبسط حقوقنا المشروعة في الحياة والأمن والحرية، ولا بواكي لنا حتى من أبناء جلدتنا..

مستشفى الشفاء بغزة

وجاء في الحلقة الرابعة من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم 18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

الأحد 29 أكتوبر/تشرين الأول

استيقظ أغلب نساء عنبر القيصرية 3، على صوت أمل، وهي تطلب منهم الاكتفاء بالنوم، وإزاحة فراش النيام وأغراضهم التي في الممرات، ليتسنى لها تنظيف المكان. فالساعة الآن الثامنة صباحا. لا تعرف أمل أن أغلب النازحين ناموا سويعات قليلة، بسبب أخبار القصف في أحياء الشيخ رضوان والشاطئ وتل الهوى، وكلها أحياء فيها أقارب لهم، كما أنها تعد محيطة بالمستشفى. أمل عاملة نظافة، تجمع في شخصيتها بين الشدة والحزم، وبين بشاشة الوجه، حتى وهي غاضبة، لذلك تلقى قبولا من الجميع.

تعمل أمل في تنظيف القسم من الساعة السابعة صباحا وحتى السابعة مساء. وأحيانا بالعكس. شابة أخرى تُدعى تكوين، عاملة نظافة أيضا، تقوم بالدور ذاته في يوم آخر، ترتسم الابتسامة دوما على شفتيها، حتى وهي تحمل كيسا ضخما من القمامة. وهذا النظام تم العمل به في حالة الطوارئ، التي يمر بها مستشفى الشفاء، منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. هذا ما أخبرتني به المسؤولة عن عاملات النظافة، السيدة كفا محسن (أم العبد).

أم العبد وكل العاملات يُقمن في المستشفى كنازحات أيضا في فترة الحرب فقط، إذ يصعب عليهن العودة لبيوتهن البعيدة عن المستشفى، بعد الانتهاء من العمل. كثيرات منهن تعرضت بيوتهن للقصف، أم العبد ذاتها فقدت اثنين من أحفادها، وأصيب عدد اخر من أفراد عائلتها. يتقاضى عامل النظافة ما بين 25 إلى 30 شيكل في اليوم الواحد. إنهم يبذلون جهدا مضاعفا عشرات المرات فترة الحرب، مقارنة بما قبلها. لقد كانت مسؤولية التنظيف قبل الحرب، تنحصر في غرف المرضى فقط، أما الآن، فهم يتحملون تنظيف ما يخلّفه النازحون أيضا، الذين يزاحمون المرضى حتى في غرفهم وحماماتهم.

لقد كنت مع كثيرين غيري من النازحين، نقوم بمسؤولية التنظيف في أماكن إقامتنا، فكان النازحون يكنسون ويمسحون البلاط، حتى الصغار كانوا يقومون بتجميع القمامة ووضعها في أكياس، ثم تسليمها لعاملة النظافة. كان الصغار يلبسون القفازات الجلدية وهم يجمعون القمامة. كان من الأهمية بمكان اهتمام النازحين بأمر النظافة الشخصية في المستشفى، تفاديا لانتشار الحشرات والأمراض بينهم، خاصة مع وجود آلاف الأطنان من القمامة على أبواب المستشفى، وداخلها وخارجها، التي تراكمت بسبب تعطيل الاحتلال لكثير من مركبات البلدية، من خلال القصف والقتل العمد لعمال البلدية.

هذا عدا طفح المجاري، التي كانت تتسبب بانتشار الروائح الكريهة جدا في أرجاء المستشفى، خاصة في ساعات المساء. أم العبد مسؤولة عاملات النظافة، تقول إنه رغم مشاحنات بعض النازحين، فإن التعليمات من إدارة المستشفى كانت بضرورة استيعاب كل أمزجة النازحين، ومراعاة ما يمرون به من ظروف قاسية.

أقسى ما كان يمر به النازحون هو الافتقار لنظافة أغلب الحمامات لعدة أسباب:

كون تلك الحمامات داخل غرف المرضى، بلا شبابيك خارجية، تُدخل النور والشمس حال انقطاع الكهرباء. مما يجعل أمر الدخول فيها وقت الظهيرة، أشبه بدخول نفقٍ حالك الظلام. مما يستدعي جلب كشافات إنارةٍ خاصة لكل نازح يريد قضاء حاجته.

كان في تلك الحمامات شفاط الهواء الكهربائي لشفط الروائح الكريهة، وهذا أيضا لا يعمل خلال الساعات الطويلة لقطع الكهرباء.

انقطاع المياه أيضا لساعات طويلة تجعل المراحيض في حالة يُرثى لها، إلى أن تتوفر المياه في ساعة متأخرة من المساء، ومن ثم يتم تنظيفها.

ترك بعض الأمهات لصغارهن، أن يقوموا بقضاء حاجتهم بأنفسهم، دون مرافقتهم، والتأكد من نظافة المكان وراءهم. ورغم ذلك، كان كثير من النازحات يتطوعن لتنظيف الحمامات، بل ويقمن بشراء المنظفات، مما جعل لهن نوعا من الأولوية دون بقية النازحين لاستخدامها، في أي وقت شاؤوا.

قبيل المغرب، كنت قد جلست مكاني بعدما قام النازحون بتنظيف أماكنهم وبسط فراشهم. والعاملة أمل تقوم بتنظيف المطبخ، الذي يستعمله أغلب النازحين، كانت بالوعة المطبخ قد تعرضت للانسداد، بسبب تراكم بقايا الطعام، مما جعل أمل تنفذ تهديدها المتكرر بإغلاق المطبخ -الذي هو بالأصل خاص بالممرضين في العنبر- في حال لم يلتزم النازحون بتنظيفه جيدا بعد استعماله.

أنا لم أستعمل هذا المطبخ مطلقا طيلة مكوثي في المكان، بل لم أدخله. أنا أريد دخول مطبخي الذي كان، قبل أن يدمر الاحتلال كل مقومات الحياة لي ولشعبي الذي لا يبحث عن الطعام، بقدر ما يبحث عن الحرية والكرامة فوق أرضه.

 

أ.ش

المصدر: الوفاق + وكالات