ألطاف إلهيّة في هندسة الوعي واللّحمة المجتمعيّة

لا تغيب عن المؤمنين بالغيْب تلك الألطاف الإلهيّة التي رافقت عملية "طوفان الأقصى" منذ بدايتها (7 تشرين الأوّل/اكتوبر 2023م) إلى ما وصلت إليه في مواجهة الحرب على غزّة صمودًا ومقاومةً بالتلازم مع رسائل القوّة والتأثير لـ"طوفان الأحرار" عبر جبهات المساندة المفعّلة (لبنان واليمن والعراق)، ولا سيّما بعد بشائر "الوعد الصادق" بأسراب المسيّرات والصواريخ الإيرانيّة التي حفرت تاريخ 13و14 نيسان 2024م في ضمير الأمّة الإسلاميّة، وعلى مرأى العالم كانعطافة تاريخيّة للردع الناشط والانتقال من الصبر الاستراتيجيّ إلى الصبر الممهور بالصفع الاستراتيجيّ، باعثة إشارة قوّة وأمل لكلّ المقاومين ضدّ الهيمنة الأميركيّة والحروب الإسرائيليّة.

2024-04-23

تتضافر جهود “رجال الله”، في حقول الأمن والسياسة والاجتماع، مستندين إلى عقيدة الجهاد التي تستشرف نهاية الكيان الصهيوني بوحي السنن والوعود الإلهيّة المحكَمة، جاعلة من إنهاء وجوده هدفًا واقعيًا ناجزًا لا يحول دونه مانع، على بصيرةٍ من أمرها بأن النهايات بيد الله، بينما تقع عليهم إعداد المقدّمات وبذل قصارى العناية حتّى تحظى بألطاف الرعاية.

 

وعليه، تعيد المقاومة في جبهاتها المفتوحة إنتاج الواقع ووعيه، ومنطق الصراع وموازينه؛ وتبدو الألطاف الإلهيّة أبرز سمات تلك المواجهة، وهي تقود العقول والقلوب والعزائم باقتدار وشجاعة وبحكمة وعزّة.

 

دلالاتٌ رمزيّة للمكان وأصحاب المبادرة والتماس الجغرافي في خدمة القضيّة

 

بدأت عمليّة “طوفان الأقصى” مِن أرض مباركة ومقدّسة، أنعشت القضيةَ الفلسطينيّةَ بوصفها مركزيّةً ومحوريّة، ربطًا برمزيّة فلسطين، ومظلوميّة أهل غزّة، ومشروعيّة مقاومتهم، ما رفع شأنها، وحال دون زوْيها هامشيّة، أو تسخيفها ونعتها بالمذهبيّة ووصمها بالتبعيّة الخارجيّة، كابحةً حركة التطبيع وإرادة المطبّعين (مهيمِن وخاضِع)، محفّزةً من مكانها وفي مجالها ألطافًا عظيمة مشهودة.

 

صدرت “العمليّة” بمطلق “مبادرتها المستقلّة” عن مجموعة قياديّة مصغّرة داخل “حركة المقاومة الإسلاميّة-حماس”. حدثت “العملية” بعد نفق طويل من التآمر الدوليّ وفتنة الحرب التكفيريّة بمآربها التفتيتيّة والاستنزافيّة والتشويهيّة (2011-2017) لاسيمّا تلك التي استهدفت سورية وموقعها ودورها الممانع والمقاوم.

 

في هذا السياق، تبدو أهمية انطلاق العملية من فلسطين المكان والمكانة، والتأمّل بمبادرة “حركة حماس” وما تعنيه في وجدان الأمّة الإسلاميّة وتشكّلاتها التنظيميّة وعلاقاتها السياسيّة. وتظهر ألطاف المكان أيضًا من خلال تماس”غزّة” الجغرافي مع جمهورية مصر العربيّة بموقعها وتأثيرها، وما تختزنه من دلالات رمزيّة في الصراع العربيّ-الإسرائيليّ، وكذلك ربطًا بتعقيد التجربة المصريّة والسياقات الحديثة لموجات الصراع على امتداد الاجتماع العربي والإسلامي؛ وقد انتقلت مصر ببعض حكّامها “من ذروة المقاومة إلى أرذل الاستسلام والتطبيع”.

 

لقد واجهت مصرُ العدوانَ الثلاثيّ (بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” في العام 1956 وانتكست مع العرب في حرب 1967 وبادرت مع سورية إلى حرب 1973 ووقّعت استسلامها في العام 1978، لتصبح رئةً عربيّةً ملتهبةً مع الوقت، تُضَيِّق على أهل غزّة خناقها فتُغلق معبر رفح، وتتلاشى معها كثيرٌ من الرهانات العربيّة وتنتكس علامات التفاؤل ثمّ تُصادَر إرادة شعبها.

 

جاءت الحرب على غزّة بكلّ رساميلها في الصمود والتضحيات والمقاومة والالتحام الشعبي حولها، وبكلّ رساميلها من الإجرام والإبادة الجماعيّة والتهجير، وهذا ما يحترفه الغرب بيدٍ إسرائيليّة فولاذيّة عاريّة من كلّ حقوق الإنسان والقوانين الدوليّة. بكلّ رساميلها هذه وويلاتها المتراكمة بعد سلسلة من المعارك السابقة، تطرح الحرب على غزّة سؤالًا كبيرًا برسم العالم وحقوق الإنسان فيه؛ وتعيد طرح الدور العربي برمّته إزاء فلسطين على بِساطِ المسؤوليّة والبحث، ويتصدّرهم في الطليعة أهل الجوار وتحديدًا مصر وتاليًا الأردن، حكمًا وشعبًا، عن الموقف والدور التاريخي!

 

وهذه حكمة إلهيّة تتجلّى بتعرية المتخاذلين والمتواطئين والمتفرّجين، ولا سيّما العرب على أكبر إبادة جماعيّة تحصل في الربع الأوّل من هذا القرن. إبادةٌ، لم تحترم شهر رمضان المبارك ولا عيد الفطر السعيد، بل استمرت تتجافى عن حقوق الإنسان مولعة باستخدام الذكاء الاصطناعي في الفتك بسخاء وحريّة مطلقة لتدحض فلسفات الغرب وأنظمته ومؤسّساته، وتضع الرأي العام أمام مسؤوليّاته تجاه الإنسانيّة.

 

ألطاف تآزر ساحات أهل المقاومة

 

أمّا على مستوى غزّة وتضاريسها المجتمعيّة السياسيّة، بعد دقائق من بدء عمليّة “طوفان الأقصى”، التحقت سائر الفصائل الفلسطينيّة، لا سيّما حركة الجهاد الإسلاميّ”سرايا القدس” والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين “كتائب أبو علي مصطفى”، لتؤازر “كتائب عزّ الدين القسّام” وتسطّر ملحمة مشتركة في الهجوم الدفاعي وفي اتّخاذ تدابير الصمود وتنفّيذ العمليات العسكريّة وتوثيقها إعلاميًّا وخوض الحرب النفسيّة، وفي ذلك سببٌ آخر لاستنزال الخير والمواهب الإلهيّة عبر اللحمة الميدانيّة الفلسطينيّة الداخليّة.

 

على صعيد آخر، أن تستعر جبهات المساندة لدول وحركات محور المقاومة، مرتكزة على دعائم أربع “المعنويّة والواقعيّة والعقلانيّة والإنسانيّة”، وأن تبادر بشجاعة وإيمان -على تخوم المغامرة- من دون تباطؤ أو تلكؤ، متّصلة جغرافيًّا كما جبهة لبنان أو منفصلة كما العراق واليمن ولاحقًا إيران، وأن تتدرّج بحكمة التصعيد من دون توقّف أو تهيّب للتهديدات الغربيّة، مع البذل الغالي للتضحيات من مدنيّين، ومجاهدين، وقادة وأبناء قادة، بيوت ومؤسّسات وأرزاق ودورة حياة.. كل ذلك يؤكّد صدق تآزر الساحات ونجاعته، وأهميّة تثبيت معادلات الردع وتعزيزها، وصوابيّة العمل على مجال إقليمي مقاوم، والاستعداد بالنار وبمزيد من الاقتدار لحرب إقليميّة أشمل.

 

وتأتي الصفعة الإيرانيّة جزءًا من الهندسة الإلهيّة لمدار الصراع، حيث وفّرت صورة الانخراط المباشر فيها من الاعتزاز لكل المقاومين ومؤازرتهم، وهذا له آثاره النفسيّة والعملانيّة تجاه إيران وإجراءاتها في كشف نقاط ضعفها واختبار نقاط قوّتها، مثل استطلاع بالنار- تمهيديًا لأي ردٍ أو اشتباك لاحق- وكذلك في تعزيزها مستويات وآليات دعمها لمكوّنات المحور، كما وفّرت صورة الإذلال لكلّ الصهاينة وحلفائهم وكشف الثغرات في الطبقات الدفاعيّة الصاروخيّة وفي مستويات الضبط والتنسيق والسيطرة عند الأعداء بعد أن استنزفت القبّة الصاروخيّة وأثارت الهلع وضربت مفهوم الردع الإسرائيلي بعد اهتزازه إثر عملية طوفان الأقصى وجبهات المساندة، لا سيّما في شمال فلسطين المحتلّة، وكادت “أن تضع الكيان الإسرائيلي الغاصب في جبهة أكثر تعقيدًا بأضعاف من الجبهات التي هي معقّدة أصلًا”، وهذا ما أمّنته حماقة العدوّ الصهيو- أميركي من جهة وشجاعة القيادة الإيرانيّة في اكتمال المشهد المقاوم من جهة أخرى، قبيل ارتفاع أسهم الحرب على رفح، وما تفتحه من تصعيد في التوتّرات واحتماليات تدحرج الصراع.

 

وبموجب المساندة، برزت الموفّقية لمحور المقاومة برمّته في تسجيل رائعة “طوفان الأحرار”. ومعه أخذت المقاومة الفلسطينيّة تختبر رهانها، لتنعم بحكمة المحور واستدعاء قدراته المناسبة والمتناسبة بما يؤثّر على التجمّعات الاستيطانيّة بإخلال أمنها واستنزاف اقتصادها وتصدّع ديموغرافيّتها وتعميق اضطراباتها السياسيّة والنفسيّة، ما يعوّم رهان سقوط “إسرائيل” من الداخل بالتوازي والتخادم الجدليّ مع الفعل المقاوم. وهنا تبرز الألطاف في عمق الصلات وتآزر الساحات وفقًا لمقاربة مركّبة وممارسة معقّدة لمحور المقاومة، وهي قفزة نوعيّة في مسار الصراع وتثبيت المعادلات الردعيّة.

 

عناصرُ تقدير الموقف عند محور المقاومة وتباشيرُ جديدة  

 

التزمت جبهات المساندة مدار المصلحة العليا لغزّة وأهلها، وتدرّجت بعملياتها التصعيديّة بما يتناسب مع (1) احتياج المقاومة الفلسطينيّة في المؤازرة، (2) وما يفرضه الميدان المباشر من مقتضيات ولوازم، (3) وانطلاقًا من خصوصيّات كلّ جبهة بتعقيداتها الداخليّة والخارجيّة مع رعاية صارمة للمصالح الوطنيّة من دون التفريط بواجب القتال من أجل إيقاف الحرب على غزّة بالنظر إليه فعلًا إنسانيًّا وقوميًّا ووطنيًّا في المقام الأوّل بناءً لتشخيص دقيق يميّز الصديق عن العدو، (4) ورعاية مقتضيات الأمن القوميّ لمحور المقاومة في صراعه مع الاستكبار العالمي عبر الكيان المؤقّت والقواعد الأميركيّة المتفاوتة في حجم قواتها والمنتشرة في أكثر من 15 دولة داخل منطقة غرب آسيا؛ نتيجة معاهدات وتفاهمات ثنائيّة، أو بناءً على طلب من الدولة المهيمَن عليها..

 

تعدّ هذه المقاربة المركّبة والمؤلّفة من هذه العناصر (التساند لإيقاف الحرب، مواكبة تفاعلات الميدان، رعاية المصلحة الوطنيّة والقوميّة، صيانة الأمن القوميّ للمحور المقاوم) خطوة جديدة في تاريخ الصراع ضدّ “إسرائيل”، تبتعد عن الشعبويّة والانفعال، وتلتزم أفقًا استراتيجيًّا رؤيويًّا وعمليًّا واضحًا.

 

أعادت جبهات المساندة لمحور المقاومة (لبنان واليمن والعراق وسوريّة وإيران) وانطلاقًا من هويّتها الدينيّة-السياسيّة تعويم الحاجة إلى إعادة تكوين الاجتماع العربي والإسلامي على أسس المشترك الديني والفكري العام وبناء لحمته بالاستناد إلى عقيدة المقاومة للهيمنة والاحتلال، ما لم تكتمل فصول الوحدة الإسلاميّة بصورتها الشاملة، وفي ذلك ضربٌ لمشاريع التقسيم والانقسام وللفتنة المذهبيّة التي ما برح العدوّ المستكبر بكلّ مكوّناته وملحقاته؛ ولا سيّما الأنظمة الاستبداديّة، يُعوِّل عليها.

 

هذه عيّنة من تباشير الألطاف الإلهيّة الجديدة التي تشمل محور المقاومة بمكوّناته مجتمعة ومتفرّقة، سببًا ونتيجةً، في تماسكه وتطوير “أسلحته وتكتيكاته بالتزامن مع رصد أساليب أعدائه، من دون توقّف”، وفي صقل تجربته واستراتيجيّاته وفضح أعدائه والمتخاذلين معهم، وأيضًا في حركته نحو إنهاء الكيان الصهيونيّ الخبيث والمؤقّت عبر مقارعته من خارجه وتعميق مآزقه الداخليّة؛ على قاعدة “إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم”.

 

د.ح

 

المصدر: العهد/ عبدالله عيسى