“تجارة الموت” تتلاعب بحياة المصريين

باتت أغلب الأدوية في مصر، خصوصاً التي تعالج الأمراض المزمنة، في قبضة "مافيا السوق السوداء"، وما زاد الكارثة حالياً أن زيادة سعر الدولار أثّر بشكل مباشر على تركيبة العقاقير وخاصة الحيوية.

2024-04-26

ربحٌ سريع وصعود على أجساد الفقراء، هذا أخطر ما تقوده “مافيا الأدوية” التي باتت ظاهرة تنهش أبدان ملايين المصريين، ليصفهم البعض بـ”تجار الموت” أو “تجار الآلام”.

 

بدأت مافيات الأدوية بالظهور منذ مطلع الألفية الحالية، لتصبح أرباحها تفوق “تجارة السلاح”، ويسميها أصحاب الصيدليات بـ”مخدرات الدواء”، لأنها تضم آلاف الأصناف المهرّبة التي تعبر الحدود بلا ضرائب أو رقابة، لتتفشى الأدوية المغشوشة والعقاقير الفاسدة التي تمثّل 10% من السوق، وفق تقديرات غير رسمية.

 

هذا العالم القاتم الذي يسرق أحلام الملايين في الشفاء، بات يجسّد المقولة الشهيرة التي أطلقها الفنان الراحل يوسف وهبي، في فيلم “حياة أو موت”: “الدواء فيه سم قاتل”، وفق محمد يوسف، مريض الكلى والضغط.

 

باتت أغلب الأدوية، خصوصاً التي تعالج الأمراض المزمنة، في قبضة “مافيا السوق السوداء”، وفق يوسف، العامل في إحدى شركات الدواء في مصر، وما زاد الكارثة حالياً أن زيادة سعر الدولار أثّرت بشكل مباشر على تركيبة العقاقير وخاصة الحيوية بعد أن دفع بعض الشركات إلى تصنيع أدوية ذات تركيز أقل، لتقليل فاتورة الاستيراد والخسارة، ما أفقدها التأثير اللازم للشفاء.

 

ويفيد “المركز المصري للحق في الدواء”، بأنّ مصر تستورد نحو 95% من المواد الخام للأدوية، منها 55% من الصين و45% من الهند، ما أدى إلى تأثّرها بالمتغيّرات العالمية، بينما يقول المركز المصري للدراسات الاقتصادية إن تلك الصناعة تعتمد بشكل أساسي على الاستيراد ما يجعلها تتأثر بتقلّبات أسعار صرف العملة.

 

فقدان الأدوية لمرضى الغدة الدرقية والقلب

علامات الإرهاق كست ملامح سيد عبد العظيم خليفة، الموظف السابق في هيئة التأمينات المصرية، من جراء المعاناة من البحث عن دواء التروكسين (يوثيروكس) لابنته الحامل سارة، والذي يُصنّع في لندن، ويُجهّز محلياً بعد استيراد مواده الخام، ويستخدم لعلاج هرمونات الغدة الدرقية، لوقاية الحوامل مخاطر تسمّم الحمل وموت الأجنّة.

 

الخوف الشديد من فقدان حفيده، بعد أن شارف الدواء لدى ابنته على الانتهاء، دفع الجد الستيني، وفق حديثه، إلى طلب الدواء من صديق يقيم في الإمارات بسعر يفوق 3 أضعافه في مصر، لعدم توافره في الداخل، برغم وصول ثمنه لأكثر من 600 جنيه بفعل مافيا السوق الموازية.

 

وكان للموظفة في التعليم، عبير فؤاد، نصيب من العناء نفسه، إذ بحثت عن أدوية سيولة الدم نحو أسبوع بسلاسل الصيدليات الشهيرة والصغيرة بعد أن نصحها الطبيب بالاستمرار عليه بشكل دائم، لأنها تعاني من آلام مبرحة بالصدر وضيق التنفّس.

 

بعد فقدان الأمل، أصاب فؤاد الهلع من تعرّضها لذبحة صدرية، وباتت تخشى تكوّن الجلطات الدموية، التي إن تفاقمت ربما تؤدي إلى الموت، كما قالت.

 

ويعزو صاحب صيدلية “الشعب”، بحي المنيرة في وسط القاهرة ، إسلام محمود أعمال المافيا إلى “فساد الضمير والذمة وتقصير الأجهزة الرقابية، مما فاقم من أزمة نقص الأدوية في السوق المصري، وفتح الأبواب لتداول أدوية مغشوشة ومنتهية الصلاحية”.

 

كذلك الأمر بالنسبة للعديد من أصناف مستحضرات التجميل والشامبوهات التي أصبحت، وفق محمود، غير مضمونة، إضافة إلى المكمّلات الغذائية والأعشاب، فضلاً عن أدوية المسكّنات والالتهابات الأدوية النفسية، وأيضاً المنشطات الجنسية مثل “فياغرا” و”ليفيترا” وغيرهما.

 

ولفت إلى أن الأزمة مردّها إلى أن “نحو 75% من الصيدليات لا يملكها صيدلي، لأن القانون لا يسمح له بامتلاك سوى صيدليتين، فنجد المالك المستتر يبحث عن الربح أياً كانت النتائج”.

 

ومن أهم الأصناف التي يتم التلاعب بها هي أدوية الكبد مثل “الألبومين”، والإنترفيرون لعلاج الفيروسات الكبدية و”بلافكس” لمنع تكوّن التجلّطات الدموية وحماية القلب، فضلاً عن عقاري “هيريسبتين” و”زوميتا” لعلاج السرطان اللذين يبلغ ثمن الأمبولة الواحدة منهما 10 آلاف جنيه مصري (نحو 220 دولاراً بالسعر الحالي)، وفق محمود.

 

ويعاني سوق الدواء المصري حالياً من اختفاء مئات الأصناف للأمراض المزمنة، كالضغط والسكر والمرارة والغدة الدرقية والكلى واضطرابات المعدة والسكري والسرطان والجيوب الأنفية والأعصاب، وغيرها.

 

ويقول الطبيب علي عبد الله، مدير مركز الدراسات الدوائية، إن العقاقير المغشوشة والمهرّبة تمثّل نحو 15% في حجم السوق المصري، طبقاً لدراسة أجراها مركز التعبئة العامة والإحصاء في الأعوام الأخيرة، ولا توجد حالياً إحصائية حديثة واضحة لذلك، محذراً المرضى من تناول تلك الأدوية المغشوشة المميتة، والتأكّد من شراء أدوية مصرّح بتداولها من وزارة الصحة، مع الابتعاد عن الشراء عبر الإنترنت.

 

وتجارة الأدوية وصل حجمها في السوق المصري إلى نحو 140 مليار جنيه (4.516 مليارات دولار أميركي) في 2023، ويتم توفير نحو 90% من الاستهلاك في الإنتاج المحلي، كذلك هناك طلبات معلّقة لاستيراد الدواء والخامات بنحو 200 مليون دولار، بحسب تقديرات رسمية.

 

أسعار خيالية لأدوية مرضى الأورام

برفقة نجلها، وفي شارع جانبي في حي الجمالية، وسط القاهرة، وقفت هند البديوي، التي استأصلت مؤخراً أوراماً موضعية في الثدي، تترقّب وصول أحد “سماسرة الأدوية” بعد التواصل معه عبر وسطاء في سوق صناعة الدواء.

 

طلب الطبيب من هند، الشابة الأربعينية، ضرورة الاستمرار على حقن “نافلبين”، بعد استئصال كتل ورمية بثدييها، لمنع تحوّلها إلى كتل سرطانية، وفق ما سردته لنا ، ما جعلها تشتريها من أحد مخازن تجارة الأدوية بسعر يزيد عن 1500 جنيه مصري، لعدم توفّرها في الصيدليات.

 

تلك الرحلة التي اتسمت بالمعاناة للبحث عن هذا الدواء، دفعت البديوي إلى الاستغاثة عبر الإنترنت والطلب من دائرة معارفها وأصدقائها البحث معها، وعرض شرائه بأي ثمن لمنع تفاقم وضعها الصحي.

 

ويقول محمد رضا، صاحب صيدلية “اللؤلؤة” في حي السيدة زينب بالقاهرة، إن هناك شركات ومخازن داخل مصر باتت متخصصة في بيع الأدوية المغشوشة بعد غلبة الطابع التجاري عليها، برغم أن وظيفتها في الأساس دور الوسيط بين الصيدليات وشركات الأدوية وتوفير النواقص.

 

ويضيف أن “غش الأدوية تجارة منظّمة تقف وراءها مافيا من أصحاب المصالح وأباطرة الاحتكار الراغبين في المكسب الحرام، وتلك التجارة تقدّر بنحو 10% من السوق المصري، الذي يقترب من 20 مليار جنيه (400 مليون دولار)”، مشيراً إلى أن ذلك موجود في أدوية مرضى الكبد والسرطان.

 

ونحو 80% من أدوية الأورام هي باهظة الثمن، ويصل سعر العبوتين من بعض أنواعها إلى نحو 50 ألف جنيه، ووفق الطبيب علي عوف، رئيس شعبة الأدوية في اتحاد الغرف التجارية في القاهرة، لا يوجد نقص في هذه الأدوية بل يبلغ ثمن بعضها 30 ألف جنيه (970 دولاراً أميركياً)، ما يمنع الصيدليات من تدبيرها.

 

ويضيف عوف في حديثه لـلميادين نت أن “صيدليات الشركة المصرية لتجارة الأدوية هي المنفذ الوحيد لبيع تلك الأدوية التي تصرف بتقرير طبي معتمد، لذا تتعرّض للغش التجاري، أو تباع في السوق السوداء بأسعارٍ خيالية”.

 

وبلغ عدد مصانع الأدوية في مصر نحو 170 مصنعاً عام 2023، وفق إحصاءات رسمية، بينما هناك 80 ألف صيدلية مسجّلة، لكن ارتفاع سعر الدولار دفع شركات لوقف إنتاج بعض الأدوية.

 

الصرخات تصل أبواب البرلمان

مع تفاقم أزمة نقص الأدوية، خصوصاً دواء “التروكسين” والأورام وغيرهما، وصلت صرخات المواطنين أبواب البرلمان المصري، ليتقدّم عضو المجلس هشام حسين، بطلب إحاطة إلى وزير الصحة خالد عبد الغفار، محذراً من أن النقص يُعرّض صحة المصريين للخطر وخاصة أصحاب الأمراض المزمنة.

 

ويقول نائب وزير الصحة والسكان السابق لشؤون قطاع الدواء، تامر عصام، إنّ الدولة تبذل قصارى جهدها للقضاء على ظاهرة السوق السوداء في قطاع الأدوية، وتعمل بشكل كبير فى الآونة الأخيرة على خدمة صناعة الدواء، وهناك انتفاضة كبيرة ضد تلك المافيا، وصدرت أحكام رادعة ضدها وأحكام أخرى ضد سلاسل الصيدليات الكبرى، مشدداً على أنّ الدولة تعمل بكل قوّتها للسيطرة على سوق صناعة الدواء، ورفع غرامات الاحتكار التي وصلت إلى 500 مليون جنيه بعد أن كانت 10 ملايين جنيه في العهد السابق.

 

وفي السوق المصرية أكثر من 17 ألف عقار مُسجّل في وزارة الصحة، ومن المتوقّع زيادة أسعار نحو 3 آلاف دواء، بفعل تحريك سعر الدولار مقابل الجنيه، بحسب تقديرات نقابة صيادلة القاهرة.

 

أ.ش