د. سيد محمود خواسته
لم أدر، في الحقيقة والواقع، لماذا أسطر هذه الحروف والكلمات! وقد سبقني التاريخ على امتداد سنينه الطوال، وسبقتني الاجيال في ذلك! فلا ثغرة تركت ولا خلأ بقى الا وتناولته الأقلام والعقول الصائبة، وهي تتأرجح على وريقات بيضاء، لتسرد حكاية الشرف باعلى درجاته، والعزة بما تحمله الكلمة من معنى، والخلق العظيم الموروث عن الرسول الأكرم (ص)، المخاطب من الباري عز وجل “… انك لعلى خلق عظيم .” (١)، والمروءة، التي لا تزال الحلقة المفقودة، عند الكثير من النساء والرجال، اعتنقتها وامتزجت بها فأصبحت جزءا منها، والعظمة التي تسمرت عليها الأعين والنظرات، فكانت لها بكل ما فيها، لأن العظمة تحتاجها وهي لا تحتاج لذلك، والصمود الذي افتقر اليه الناس، كان عند قدميها راكعا، مستجديا، والصبر الذي ضارع صبر أيوب (ع)، مل من الوقوف عندها وما ملت! فكيف، اذن، أدون ترشحات فكري وقطرات ذهني، وهما قاصران عن بلوغ المأرب، والغاية والهدف، والنيل ولو بجزء يسير مما ارنو اليه وأتنبأ به؟
فهل هي الدنيا وما تحتويه، وما تحيط بنا من خيوطها وشباكها، نتصارع عليها ونأخذها او تأخذنا غلابا؟ فننال ما تمنيناه، وتغمرنا الفرحة ثوان معدودة؟ وينطبق علينا القول: وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال
إذ الاقدام كان لهم ركابا (٢)
فهل ما نقدم عليه ونمتطيه، هو الغلبة على كل شيئ استعصى علينا؟… فيا أيتها السيدة الجليلة، الطاهرة، المطهرة، الراضية، المرضية، ماذا اكتب عنك في ذكرى ميلادك الاغر؟… عن اية منقبة واي فضل، حنو، مقام، مكانة، رفعة وعلو شأن؟ .
يوم ميلادها المبارك
أشار الرواة إلى أن سيدة نساء العالم، فاطمة الزهراء (ع)، ولدت يوم الجمعة في العشرين من جمادي الآخرة، بعد البعثة النبوية الشريفة بخمس سنوات، وبثلاث سنوات بعد (الإسراء والمعراج). هذا ما ذكرته مصادر الشيعة.
وما ذكره اخواننا أهل السنة والجماعة، أن ميلادها الميمون، كان في السنة الخامسة قبل البعثة في مكة المكرمة، والنبي (ص) له من العمر خمسة وثلاثون عاما. (٣). فالاختلاف نظرة زاويتين في طيات التاريخ، ذابتا في ميلاد أضاء السموات والارضين، وتداعت له اركانها، مهللة مع الملائكة، وصادحة بانشودة مباركة، عمت الوجود بما فيه من كائنات ومخلوقات، ولا يخفى ما كان صدى ذلك على أشرف الرسل(ص)، والفرحة التي غمرت بيت النبوة، في ذلك العصر المدلهم، الذي اعتاد فيه اعراب الجاهلية، على وأد الرضيعات ودفنهن أحياء! ناهيك عما كانت تتعرض له المرأة آنذاك، من انتهاك لحرمتها والمعاملة التي كانت تتلقاها، كبضاعة تنتقل من يد إلى يد!
ولا حول لها في ذلك ولا قوة! وما كانت تغص به (خيام) الجاهليين، من نساء سبايا وجوار، يمتهن ما شاء لهن الأسياد! حيث شهدت (ع) وهي في عمر الورد، احداثا كثيرة، بقيت في ذاكرتها محفورة، متضاربة، وكانت العون والمعين للنبي (ص)، فيما عاناه وتعرض له من جفاء قريش وعدائها، لا سيما عمه (ابو لهب) وامرأته ام جميل، وقد بالغا في إيذاء الرسول (ص)، خاصة بالقاء القاذورات امام بيته… فكانت تقوم (ع) بتنظيف المكان وتطهيره، وشاركت والدها (ص) في شعب ابي طالب، خلال ثلاث سنوات من الحصار، بما تحمله من ألم وعناء وجوع، جراء محاصرة قريش لهم، مما أثر على صحتها (ع)، لكن ذلك زادها إيمانا وصلابة، واضفى عليها تجارب كثيرة، أفادت منها على امتداد حياتها الشريفة… ولم يمض وقت طويل على نهاية الحصار الظالم، الذي خرجت منه مرفوعة الهامة، حتى ثكلها الموت بوفاة امها السيدة خديجة (ع)، فتحملت المصاب، صامدة، صلبة العود، بالصبر والوقوف إلى جانب الرسول الأكرم(ص)، لتشغل مكان امها الفقيدة، وتقوم بما استطاعت لوالدها العظيم (ص)، وهي في ربيع العمر، ما يخفف من حزنه، ففازت بذلك ب (ام ابيها). (٤) طوال حياتها المباركة، ولم يذكر لنا التاريخ ان أحدا من الرجال أو النساء، لعب دورا مما قامت به الزهراء (ع)، خلال الأحداث الجسام، عند مصاحبتها لوالدها العظيم (ص)، أو حتى الاقتراب من ذلك، فقد عقم الدهر ان يأتي بمثلها إلى الآن! فما اكثر المتبجحين والمتبجحات، وما أقل العظام في هذا المسار! وما اندر السائرين على خطى الزهراء البتول (ع)، وما أكثر العبر واقل الاعتبار!
ان المتتبع للروايات والأخبار التي تدور حول الزكية (ع)، يرى بوضوح ان التاريخ، رغم السحب السوداء التي غطت سماءه، بواسطة الأقلام المأجورة التي ترتزق على فتات موائد هذا وذاك، أظهر صحفا بيضاء، ناصعة، متحدثا وراويا ما تمتعت به سيدتنا (ع) من فضائل، منذ ولادتها حتى التحاقها بالرسول الاعظم (ص) وهي في ريعان الشباب، وقد كانت جنبا إلى جنب مع حامل الرسالة الالهية أينما حل ورحل. فقد هاجرت إلى المدينة المنورة، مع اختها ام كلثوم وعدد من الأصحاب، في السنة الأولى من الهجرة . (٥).
أسماء وألقاب
أما ما حوته من اسماء والقاب، ان دل على شيء، فإنما يدل على المكانة العلوية، والمقام الإلهي الرفيع عند الله عز وجل، وحتى تسميتها بـ (فاطمة)، كانت لها دلالتها الواضحة على شخصيتها ودورها في الدين القويم.
ذكر الخطيب البغدادي وابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة: “ان الله تعالى أسماها فاطمة لأنه فطمها ومحبيها عن النار .”، وقال محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: “ان الله تعالى فطمها وولدها عن النار .” (٦). فالتي هكذا سميت ومن الله عز وجل فطمت وذريتها، وابعدت عن جهنم التي قال جل جلاله فيها ونارها التي تقول: “… هل من مزيد ” (٧)، … “قوا أنفسكم واهليكم نارا وقودها الناس والحجارة …” (٨).
هي أفضل نبراس ومشعل وهاج لكل من أراد الخطو، على مسار الحق والحقيقة بصدق وإخلاص. فاين الاقاحي والكواكب الزاهرة منها؟.
ان العرب تسمي الأبيض المشرب بالحمرة بالازهر ومؤنثه الزهراء. الا انه روي عن النبي (ص) انه سماها بالزهراء، لأنها ازهرت لأهل السماء كما النجوم لأهل الأرض، وذلك لما تمتعت به من زهد وورع واجتهاد في البيان. ونقل بعض المحدثين وأصحاب السير عنها، عبارات وأوراد خاصة انفردت (ع) بها عن غيرها کـ: تسبيح الزهراء، دعاء الزهراء، وصلاة الزهراء وغير ذلك. (٩) … فالانحصار في الشخصية وتفردها بخصائص لم يحظ بها غيرها قط، هو برهان آخر على عظمة امرأة، وسيدة جليلة، لم ير الدهر مثيلا لها ويتحف الإنسانية بنموذج مساو او على مستواها لحد الان. والقابها الأخرى التي توالت عليها كذلك، حيث ذكر النووي في شرح مسلم حول لقبها (البتول)، بأن ذلك لانقطاعها عن نساء زمانها دينا وفضلا ورغبة في الآخرة. (١٠).
وانظر إلى لقبها الاخر (الحوراء الإنسية). أورد الطبراني في المعجم الكبير، عن النبي (ص) ان “فاطمة حوراء انسية. فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة، شممت رائحة ابنتي فاطمة.” (١١)، وسميت أيضا بالصديقة لأنها لم تكذب قط. (١٢)، وبالمحدثة لان الملائكة تحدثها. (١٣)، وبالبضعة لقول الرسول الاعظم (ص): فاطمة بضعة مني. _ (١٤)، وبالزكية، المرضية، الحانية، والريحانة وغير ذلك.
نهر من الكوثر
فماذا اكتب بعد عنها وقد خانني الفكر، ووقف العقل حائرا، امام ملك بصورت انسان، لا يزال حاضرا بين الناس وما عرفوا قدره؟ … فهي:
فجر من الخلد قد لاحت طلائعه
على الوجود فصلت باسمه الحقب
ندى من العرش قد شقت لآلؤه
فسال بردا وجدب الكون يرتقب
نهر من (الكوثر) الصافي يسيل هنا
في القلب، في الروح، في الشريان ينسكب
بوح من الجنة (الزهرا) روائعه
في صفحة العالم العلوي ينكتب
ذكراك نهج ومسرى شقه ألق
من عسجد الشمس قامت فوقه قبب
ما سار في صدرنا نبض ولا نفس
الا و(فاطم) في نجواه تنسرب (١٥).
هكذا هو الفرقد، وهكذا هو المنار، عندما يصلي الإله جل جلاله عليها:
صلى الإله على البتول وآلها
من تخضع الأملاك عند جلالها
الطهر فاطمة سليلة (احمد)
من يشرق الإعجاز في اقوالها.
ما أعظم (الزهراء) درة عصمة
قد عم هذا الكون فيض نوالها
قد ازهر الملكوت من انوارها
وسمى رواق المجد تحت ظلالها. (١٦).
هذه هي البشرى الأولى … ذكرى ميلاد سيدة نساء العالمين، ام ابيها، سيدتنا فاطمة الزهراء (ع).
البشرى الثانية
أما البشرى الثانية، فهي ذكرى ميلاد حفيدها سماحة الإمام الخميني (قدس)، التي اقترنت بميلاد جدته العظمى (س). ان الحديث متشعب وطويل حول الإمام، الذي تسابقت الأقلام والافكار، في حلبة سرد ما يلف شخصيته بعد ثلاثين عاما ونيف على رحيله، ولا تزال تتصارع بينها … فمن أين تبدأ وإلى أين تنتهي؟
وهو الذي نفض الغبار عن دين الله القويم، الإسلام، وأظهره للعيان ناصعا كما كان، ليتساقط الأقزام هنا وهناك، الواحد تلو الاخر، امام عظمة الدين الأصيل، منقذ وهادي الإنسانية إلى الصراط المستقيم، وامام رجل قام لله تعالى منفردا، مضحيا غير مبال بذلك لومة لائم، أو نعيق غراب يتغذى على الجيف والأشلاء!. قال سماحته (قده) في الزهراء (ع): ” ان مختلف الأبعاد التي يمكن تصورها للمرأة وللانسان، تجسدت في شخصية فاطمة الزهراء (س).
لم تكن الزهراء (ع) امرأة عادية، كانت امرأة روحانية ملكوتية. كانت إنسانا بتمام معنى الكلمة … حقيقة الإنسان الكامل. ” (١٧).
ان ما نطق به سماحته، فيما يتعلق بجدته البتول (س)، هو الحقيقة بعينها. فالباحثون عن الكمال والإنسان الكامل، وأصحاب النظريات في الغرب الحائر، التائه، الذي أضاع طريقه ونسى هدفه، عليهم دراسة وبحث ذلك في شخصية لا مثيل لها في التاريخ قط، قامت الدنيا وما قعدت لتعرف ماهيتها، فما استطاعت لذلك سبيلا!
وارتد أولئك قابعين في حجراتهم المظلمة، التي يطلقون عليها [معاهد او مراكز الدراسات الشرقية]، ويسمون أنفسهم (مستشرقين)! يكتبون ويكتبون … ثم يمزقون ما كتبوا، لعدم انطباقه مع مفاهيم وعبارات وضعوها لخداع الناس، خاصة النساء!
متمسكين بحبال متهرئة عفى عليها الدهر يسمونها (حقوق الانسان)!… وتقوم نائبة في احد برلمانات أوروبا وبيدها مقص، تقص قسماً من شعرها، على المنصة امام أعضاء وعضوات البرلمان، احتجاجا على تدهور وضع المرأة في إيران كما تدعي!… فأين هؤلاء مما انجبته البشرية لمرة واحدة فقط! وعقمت بعد ذلك لحد الان… الا وهو المصباح المنير ونبراس المرأة إلى يوم الدين، فاطمة الزهراء (ع)؟ التي قال فيها أيضا الإمام الخميني (قدس): ” كان الرسول الاعظم (ص) والائمة الأطهار (ع) انوارا محدقين بالعرش، قبل أن يخلق الله العالم، كما تفيده الأحاديث المتوافرة لدينا، وجعل لهم من المنزلة والزلفي، ما لا يعلمه إلا الله، وهي تصدق على فاطمة الزهراء (س) أيضا. (١٨)
ومن يقود ثورة اصيلة ضد طواغيت عصره، ويحيي تعاليم الإسلام المحمدي ثانية، في فترة تكالبت فيها القوى السلطوية، متحالفة ضد مبادئ الدين السامية، جدير ولائق بأن يكون الحفيد البار للصديقة الكبرى (ع)، والسائر على دربها طوال حياته الكريمة، وقد اعتبر ميلادها (س) يوما لتكريم المرأة في إيران الثورة.
قال مهنئا ذكرى الميلاد الاغر: ” ابارك واهنئ ذكرى الميلاد السعيد للصديقة الطاهرة، الذي هو أفضل يوم لانتخابه يوما للمرأة، للشعب الإيراني الشريف وخصوصا النساء المحترمات. لقد حدثت هذه الولادة السعيدة، في زمان ومحيط لم تكن المرأة تعد إنسانا، بل كانت الأمم المختلفة في الجاهلية، تعتبر وجودها مدعاة للذلة والعار لأهلها” (١٩).
الإمام الخميني (قدس) في كلام المفكرون
وهذا غيض من فيض، مما قال فيه رجال السياسة والتاريخ والمفكرون والباحثون. منهم: راجيف غاندي، رئيس وزراء الهند الأسبق: الإمام الخميني، زعيم كبير، تمكن في إيمانه واعتقاده، ان يقود الثورة الإسلامية.
والشيخ عفيف النابلسي، احد علماء لبنان: احنى رجال التاريخ رؤوسهم، امام عظمة الثورة الإسلامية بزعامة الإمام الخميني، وطوى النسيان، جميع ثورات العالم حيال الثورة الإسلامية. والبروفسور حامد الكار، الاستاذ المسلم في جامعة كاليفورنيا: ينبغي تعظيم شخصية سماحة الإمام، ومكانة زعيم الثورة الإسلامية الرفيعة، ودراسة التأثير التاريخي لهذا الزعيم، ليس في العالم الإسلامي، وإنما في كل الانظمة السياسية في العالم.
والدكتور جورج مستاكن، العالم والكاتب اليوناني: الحياة الدينية والسياسية، للامام الخميني وكفاحه، ضدالاستعمار، ستظل مسجلة بوضوح في سجل التاريخ. (٢٠).
الهوامش
1- الآية ٤، القلم.
2- احمد شوقي في قصيدته الغراء: سلوا قلبي …
3- سلم الوصول إلى طبقات الفحول، م٣، ص٩، مصطفى بن عبد الله القسطنطيني.
4- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الاثير الجزري ج٥، ص٥٢٠.
5- مستدرك علم رجال الحديث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج٨، ص٥٩٥.
6- سنن الأقوال والأفعال، الفصل الثاني في فضائل أهل البيت (ع)
7- الآية ٣٠، ق.
8- الآية ٦، التحريم.
9- الكوثر في حياة فاطمة (ع) بنت النبي الاطهر (ص). الباقري.
10- اسلام ويب، مركز الفتوى، نسخة محفوظة ٥ مايس ٢٠١١ م.
11- الدر المنثور للسيوطي ٢١٨: ٥ والمستدرك للحاكم ١٥٦: ٣.
12- تذهيب تهذيب الكمال (١ يناير ٢٠٠٣ م).
13- المصدر السابق وبحار الانوار للمجلس ج٢٨، ص٣٨.
14- الدرر السنية، الموسوعة الحديثية، مؤرشف من الأصل.
15- للشاعر معتوق المعتوق.
16- للشاعر محمد سعيد الحبشي.
17- مكانة المرأة في فكر الإمام الخميني(قده)، ص٢٣.
18- نفس المصدر ص٢١. ١٩
19- صحيفة الإمام الإمام العربية، ج١٤، ص٢٤٩.
20- tagbribnews.com
القسم العربي بقسم الشؤون الدولية في مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني (قدس)