شارل ابي نادر
حدثان لافتان طبعا الأيام الأخيرة فيما خص العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، الأول هو التقدم الروسي الميداني في جبهة سولدار – باخموت، والثاني هو التعيينات العسكرية الروسية الجديدة لقيادة العمليات في أوكرانيا. ومع أهمية الحدث الأول (التقدم الميداني) ومدى تأثيره على مسار الحرب، يبقى للتعيينات العسكرية لقيادة العمليات في أوكرانيا بعد مهم وحساس، من الضروري تسليط الضوء عليه لمحاولة استشراف المناورة الروسية المقبلة في أوكرانيا.
بداية، يرتبط الحدثان ببعضهما بعضًا بشكل عضوي بدرجة كبيرة، إذ جاءت التعيينات العسكرية لتواكب وتستثمر نجاح التقدم الميداني. اللافت في الأمر أن قادة الجيوش أو الدول عادة يقرّون تغييرات أو تعيينات عسكرية معنية بجبهة أو معركة محددة اذا أظهرت القيادة التي تتسلم زمام الأمور فشلًا ما في مهمتها، وهذا الأمر حصل عكسه فيما خص قرارات الرئيس بوتين الأخيرة، حيث أصدر تعييناته على خلفية النجاح في التقدم على أصعب جبهة تواجه وحداته في وسط الشرق الأوكراني.
انطلاقًا من هذا الأمر، يمكن استنتاج المسؤولية الاستثنائية المرتقبة للقائد الجديد للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وهو الجنرال فاليري غيراسيموف، رئيس أركان القوات المسلحة الروسية، ويعطيه موقعه كرئيس أركان الجيش والصلاحية لقيادة كل أسلحة القوات المسلحة الروسية البرية والجوية والصاروخية والبحرية. ومن هنا يمكننا بدء تلمس كيف يمكن أن تتطور العمليات الروسية في اوكرانيا من عملية خاصة تنفذها قوى محدودة ويوضع بتصرفها تجهيزات وأسلحة محدودة، إلى عملية واسعة على مستوى الجيش الروسي بكامل عديده وأسلحته وعتاده وقدراته.
طبعًا، هذا لا يعني زج كامل هذه الوحدات والامكانيات التي يأمرها رئيس أركان الجيش الروسي في اوكرانيا، حيث المناورة الواسعة للجيوش الكبرى لها أنظمتها وقيودها الخاصة، وأيضا لها مداها المقيد بالخطوط الدولية المعروفة أيضًا، ولكن من غير المنطقي أن تنحصر قيادة أركان الجيش الروسي كقائد للعملية الروسية في أوكرانيا، بإدارة مناورة شبيهة أو قريبة المستوى من ناحية القدرات أو العمليات، بالمناورة التي أديرت بها هذه العملية منذ بدايتها لعام سبق تقريبًا وحتى الآن.
جاءت التغييرات في رفع مستوى قيادات العملية العسكرية في أوكرانيا، على خلفية المعطيات التالية:
– التعثر الجزئي الذي ظهرت به العملية حتى الآن والخسائر الروسية غير البسيطة، الأمر الذي لا يمكن لأي مراقب موضوعي إلا أن يكتشفه، وهذا التعثر طبعًا لم يمنع الوحدات الروسية من تحقيق جملة من الأهداف الأساسية للعملية، ومنها تدمير النسبة الأكبر من قدرات الجيش الأوكراني، ومنها أيضًا، السيطرة على القسم الأكبر من الدونباس شرقًا، وامتدادًا حتى كافة المناطق الجنوبية الشرقية مع كامل سواحل بحر ازوف ونسبة كبيرة من سواحل أوكرانيا على البحر الأسود.
– الانخراط الغربي المتزايد يومًا بعد يوم، بالعتاد والأسلحة الغربية المتطورة التي تُدعم بها الوحدات الاوكرانية والتي أعطت نتيجة ميدانية وعسكرية غير بسيطة، بالإضافة للانخراط البشري للغرب الاطلسي عبر ما يسمى بالمرتزقة، أو المتطوعين لقتال الروس كما أسموهم، والذين هم في الحقيقة مستشارون وخبراء وقادة عسكريون من الطراز الأول، ونسبة مَن منهم في الخدمة الفعلية كبيرة وخاصة في الجيشين الاميركي والبريطاني. وقتلى ومصابو هؤلاء في المعركة خير دليل على ذلك.
استنادًا إلى هذه المعطيات، كان لا بد للقيادة الروسية من اتخاذ اجراء معين لمواجهة هذا الانخراط الغربي شبه المباشر في الحرب، فكان قرار التعيينات العسكرية اللافتة مؤخرًا.
من هنا، وانطلاقًا أيضًا من التقدم الميداني الأخير في سولدار والذي يتطور سريعًا نحو اكمال السيطرة على مدينة باخموت، أصبح واضحًا أن مناورة الجيش الروسي المرتقبة في أوكرانيا تذهب على الأرجح، إلى التالي:
أولًا: اكمال السيطرة على كامل الدونباس، حيث من المرتقب تطوير العمليات شمال سولدار للسيطرة على مدن سيفرسك وسلوفيانسك وبيلوريفكا.
ثانيًا: الاستفادة من الوقت المتبقي حتى نهاية شهر فبراير/ شباط القادم – وهو التوقيت الذي رأته القيادة الروسية مناسبًا لإطلاق العملية بداية عام 2022 – لتجهيز القوى المناسبة (التي يأمرها رئيس اركان الجيش الروسي) والضرورية منها، لتوسيع العملية البرية وفي أكثر من محور: باتجاه كييف شمالًا وباتجاه مدينة دنيبرو في الوسط، وباتجاه اوديسا جنوبًا، مع اعطاء هذه المحاور الثلاثة كل ما تحتاجه من قوى وأسلحة ودعم جوي وصاروخي.
ثالثًا وأخيرًا: ارفاق الأعمال العسكرية البرية الواسعة بضغط جوي وصاروخي مركّز على أغلب المنشآت العسكرية وخطوط النقل بشكل عام ومصادر الطاقة، وفي كافة الأراضي والمدن الأوكرانية، ومن خلال كل ذلك، تشكيل قوة ضغط واسعة وضخمة، واستغلالها اعلاميًا وسياسيًا ودبلوماسيًا لانتزاع اعتراف أوكراني وغربي بانجازات العملية لناحية السيطرة على المقاطعات الأربع التي أصبحت حسب موسكو روسية بالاضافة لانتزاع اعتراف غربي بالضمانات الأمنية العسكرية التي طالبت بها موسكو قبل اطلاقها العملية العسكرية.