في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، نلتقي بمناسبتين إسلاميتين كبيرتين، وهما المبعث النبويّ الشريف، وذكرى الإسراء والمعراج، فقد أرسل الله رسوله بالرسالة، وأراد له أن يبلِّغ ما أنزله عليه من وحيه. ونحن، في مثل هذه المناسبات، نستذكر السيرة المجيدة لرسول الله صلى الله عليه وآله الذي أعدَّه الله طيلة الأربعين سنة ليكون الإنسان المتميّز بكلِّ الكمالات العلمية والروحية والأخلاقية، بعد أن صاغه الله على عينه كما صاغ رسله من قبل، ليكمل عقله، وليفتح قلبه، ولتكون حياته الحياة المعصومة، ولتكون مكانته الأعلى والأفضل والأقوى في طاعة الله وموقع القرب منه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله قبل أن يبعث بالرسالة، أمّياً لم يقرأ كتاباً ولم يكن يكتب أيضاً، كما قال الله سبحانه وتعالى عنه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت/48). وهنا تميَّز رسول الله عن كلِّ الناس، بأنه كان الأعلم من دون أن يقرأ ويكتب، لأن الله هو الَّذي علَّمه وألهمه وأعطاه عقلاً ينفتح به على حقائق الكون وأسرار غيبه، ولم تكن عدم ممارسته للقراءة والكتابة نقصاً فيه، وإنما كمالاً، لأنها لم تعبِّر عن جهل، وإنما عبّرت، بعناية الله له، عن شخصية متكاملة في كلِّ جوانب المعرفة والثقافة، وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يرسل النبيّ الأميّ، ليقول للناس إنّ هذا النبيّ هو الذي سيملأ الحياة علماً، ويعطي الإنسان من علمه ما يغتني به، وهذا دليل على أنه رسول من الله، وإلا فمن أين جاء بهذا العلم؟
ثم إنّ الرسول صلى الله عليه وآله انطلق بالدعوة إلى الله في مجتمع يغلب عليه الشرك وعبادة الأوثان، فكان إنسان الحوار الذي لم يعنف مع قومه، ولم يتخذ الأسلوب القاسي معهم، بل كان يصبر على كلِّ سلبياتهم، وكان يحاورهم بالكلمة الطيبة والأسلوب الأحسن، ولكنّهم كانوا يزدادون غروراً وعداوةً، وما استطاعوا أن يناقشوه في ما كان يعرض عليهم من حقائق التوحيد وحقائق الحياة، في ما أراد الله للإنسان من تنظيم حياته، بل بادروا إلى العنف، فاضطهدوا أصحابه وعائلته وحاصروهم وقاطعوهم، وعملوا على التخلّص منه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ}(الأنفال/30). ولكن الله أنقذه في ليلة الهجرة إلى المدينة، حيث غطّى انسحابه بمبيت علي عليه السلام في فراشه، حتى يوهم المشركين بأنّه لا يزال في مكّة، فيتوقّفوا عن ملاحقته، وقال له علي: «أوتسلم يا رسول الله؟ قال بلى». فأنزل الله في علي عليه السلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة/207)، فقد باع عليٌّ نفسه لله، لأنّه كان لله في حربه وسلمه وصبره وانفتاحه على كلِّ ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين.
وهكذا بدأ النبي صلى الله عليه وآله تنظيم المجتمع عندما حلَّ بالمدينة، وأسَّس الدولة الإسلامية الأولى، وملأ ما تحتاجه من مبادئ وتشريعات لبناء حياة إسلامية متكاملة. وفي المقابل، وقف المشركون ليعطّلوا حركته، ففرضوا عليه الحروب في بدر وأحد والأحزاب وخيبر وحنين، ولكن الله سبحانه وتعالى نصر نبيّه، وامتدت دعوته، وأصبحت هناك قوة جديدة دخلت شبه الجزيرة العربية، وهي قوة الإسلام، وأنزل الله سبحانه بعد فتح مكة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}(سورة النَّصر).
ونحن في هذه المرحلة، وفي ذكرى المبعث النبوي، وهي ذكرى ولادة الإسلام، يجب علينا أن نشعر بأنَّ الله جعل الإسلام أمانة في أعناقنا وحمَّلنا مسؤوليّته {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}(آل عمران/144). وانطلاقاً من هذه الآيات، فإننا مسؤولون عن الرِّسالة الإسلامية لنلتزمها في عقولنا وقلوبنا، ونحركها في حياتنا، وأن نكون الدُّعاة إلى الله في العالم كلِّه. ومسؤولية كل المسلمين، من العلماء والمثقفين والمفكرين، وكلّ من يعرف آيةً أو حكماً شرعياً، أن يبلِّغ ذلك للناس {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ}(الأحزاب/39).
مسؤوليّتنا أن نعطي للإسلام من قوّتنا قوّةً، ومن عزّتنا عزةً، وأن تكون إرادتنا قويةً وصلبةً حتى تكسر إرادة المستكبرين والظالمين، ولا مجال للحياد.
العلامة السيد محمد حسين فضل الله