فكّ رموز العناوين، الأسماء، الأعمار، التواريخ

قراءة في رسوم أطفال الحجارة

لو أنّ اليد الصغيرة التي تتجرّأ على رفع الحجر في وجه جنديّ محاصر يستخدم الذخيرة الحيّة، أُعْطِيَتْ قلماً، أو فرشاة، فكيف سوف "تواجه" الورق؟

2023-05-26

خلال الأيّام الأولى لـ “انتفاضة الحجارة”، أمرت السلطات الاستعمارية الصهيونية بإقفال كافّة مدارس الضفّة الغربيّة وغزّة، اعتقاداً منها أنّ الطلاب الفلسطينيين يستخدمون التجهيزات المدرسيّة لشنّ ما سوف يغدو حركة شعبيّة عارمة ضد الاستعمار الصهيوني. اندلعت الحركة في أوساط لاجئي المخيّمات وغذّتها مخيّلة لا يتمتّع بها إلّا تلامذة المدارس، وسرعان ما شملت جميع سكّان الأراضي المحتلّة.

بالنسبة لأطفال تشبّعوا بتقاليد أرضهم وحكاياتها، لم تكن تلك المرّة الأولى التي يسمعون فيها رجالاً في السلطة يوجّهون أصابع الاتّهام إلى طفل لا يخاف، مصمّم على تحرير شعبه من الإضطهاد. وبالفعل، نزل أطفال وصبية إلى أزقّة الأحياء يحملون الحجر والمقلاع، ويتحدّون جيشاً من الرجال المجهّزين بأحدث الأسلحة وأكثرها تطوّراً.

في وقت كانت فيه المدارس مقفلة، ومنع التجوّل مفروض في صورة شبه دائمة، خطر في بالي هذا السؤال: لو أُتِيحَ لهؤلاء الأطفال أن يعبّروا عن أنفسهم بحرّيّة على الورق، فماذا تراهم يُصوّرون؟ لو أنّ اليد الصغيرة التي تتجرّأ على رفع الحجر في وجه جنديّ محاصر يستخدم الذخيرة الحيّة، أُعْطِيَتْ قلماً، أو طبشورة، أو فرشاة، فكيف سوف “تواجه” الورق لتعيد بناء العالم الذي يبتدعه الجيل الجديد من الفلسطينيّين؟ تلك هي الأسئلة التي رحت أطرحها على الأصدقاء الذين زاروني من الضفّة الغربيّة وغزّة.

في غضون أسابيع، انهال عليّ فيض من الأعمال الفنّيّة التي وصلت بالبريد من أطفال أصدقائي وأطفال جيرانهم. وكان الوقت الذي أمضيته في “قراءة” تلك الرسوم وفكّ رموز العناوين، الأسماء، الأعمار، التواريخ، تربية كاملة بذاتها.

الريف، الاستعمار، الحلم

تنمّ الأعمال الفنّيّة التي رسمها بين شهري شباط/فبراير، وآذار/مارس 1988، أطفال وصبية تتراوح أعمارهم بين الرابعة والرابعة عشرة، رُبِّي معظمهم في مخيّمات اللاجئين، تنمّ عن هموم تتجاوز الأحداث اليوميّة المباشرة. والحقّ أنّ الرسوم تستكشف ثلاثة ميادين من الواقع الفلسطيني، تتأمّل المجموعة الأولى في المورورث من حياة الريف التقليديّة، وفي مناظر أرض الأجداد وهي في ريعان وجودها. فيما تعبّر المجموعة الثانية عن تجربة الحياة اليوميّة تحت الاستعمار، لتشكّل شهادة على كرامة وصمود شعب، ومقاومته التي لا تلين في وجه الاضطهاد. أمّا المجموعة الثالثة فتتكوّن من رسوم تؤكّد الثقة والإيمان باستمراريّة الحلم الجماعي، تقرنه برؤيا السلام لم يشاهده هؤلاء الأطفال قطّ.

تتميّز الصور في المجموعات الثلاث بالجهد المذهل الذي بذله الطفل أو الطفلة، لتقديم وجهة نظر شاملة عن موضوعه. فإذا بالطفل الذي أثبت أنّه لم يكن مجرّد مراقب كسول إزاء الأحداث في أزقّة القرية أو الحيّ، يبدو هنا أشبه بإله يشرف على العالم المرئيّ بأكمله، ويعيد صياغته على صورته ومثاله، متجاوزاً بالضرورة كلّ الحدود المكانيّة والزمانيّة من أجل إيصال الرسالة المرجوّة.

هذه فتاة في الثامنة من العمر تراقب لحظة من لحظات عالمها الخارجي، وتروي لنا تجربتها الداخليّة في آنٍ معاً، بلوحة عنوانها: “غاز مسيّل للدموع في عيني”. فقد انفجرت ثلاث قنابل مسيلة للدموع للتوّ حول الفتاة، فيما ثلاثة صبية يقودون تظاهرة على مسافة منها لا يعيرونها أيّ اهتمام. كما أنّ الصبية لا عيون لهم ترى الفتاة، فتغطّي الفتاة، التي ترتدي للمناسبة ثوباً مصنوعاً من علم فلسطينيّ، عينيها فلا ترى زملاءها الثلاثة؛ هي تقف وحيدة وسط هذا العالم المتلظّي، تواجهنا كأنّنا نحن مرآتها، وتريد أن تتأكّد من أنّنا نشاهد كيف أنّ الغاز المسيّل للدموع يحرق لها عينيها.

يبدو أنّ الرغبة الملحّة في إيصال فوريّة تجربة معيّنة قبل نفاد الموادّ الفنّيّة النادرة، التي في حوزتهم، تحذو بالأطفال إلى أن يحشروا على الرقعة المحدودة للورقة أكبر عدد ممكن من التفاصيل، فإذا بالتأليفات عن المشاهد الشاملة تروي موجزاً لقصّة فلسطين بلغة الشعر.

في المشاهد الريفيّة للحياة التقليديّة، نجد أنّ كلّ ثلم في الأرض، كلّ نصل لعشبة، كلّ زيتونة على شجرة، كلّ زهرة في بيّارة برتقال مستظهرة بعناية وحبّ. كذلك يستطيع المشاهد أن يتعرّف في الشخصيّات الفلسطينيّة على منمنمات لأفراد يعملون في الحقل، أو يملأون الجرار من العين في القرية، أو يتظاهرون في الشارع. هنا امرأة ترتدي الثوب التقليدي المطرّز، وأخرى ترتدي الـ “بلو جينز”، وهناك فتاة ذات ضفيرة على شاكلة ذيل حصان تحمل حجراً، في ما أخرى عقصت ضفيرتها بشريط تكتفي بمراقبة ما يجري. وهذا فتى يتلثّم بكوفيّة رجاليّة، وذلك فلّاح مشورب يعتمر الكوفيّة ذاتها يبادلنا الابتسامة.

عالم مشطور

ينمّ فنّانونا الصغار عن العناية ذاتها بالتفاصيل عندما يحاولون تصوير الصهاينة. على أنّه يبدو أنّ الصهيوني الوحيد الذي يعرفه الأطفال هو الجندي في بزّة القتال المرقّطة: ومثلما أنّ التفاصيل المؤَسْلَبة للعالم الفلسطيني كثيراً ما تذكّرنا بالمنمنمات الإسلاميّة، كذلك فالوضعية الجانبيّة التي يرسمون بها الصهاينة تذكّرنا بهامات المحاربين على الأختام والنقوش الآشوريّة. على أنّ المحارب المعاصر يجري التعريف به من خلال رتبته العسكريّة، أو الوحدة التي ينتمي إليها؛ فهذا الشكل للخوذة وهذا اللون للقبّعة يدلّان على انتماء الجنديّ المعنيّ لـ “حرس الحدود”، أمّا ذاك فجنديّ في “سلاح المظلّيّين”. جميعهم مدجج بالأسلحة الآليّة، والهراوات الغليظة، والمسدّسات، والأغمدة، وأحزمة الرصاص، وعبوات الغاز المسيل للدموع. بعضهم يحتمي وراء الأقنعة الواقية من الغاز، والبعض الآخر وراء الدروع البلاستيكيّة، وبعض آخر يحمل أجهزة الاتّصال اللاسلكيّة “الووكي-تووكي”. جميعهم ينتعل الجزم الثقيلة. جميعهم معزز بالآليّات العسكريّة من سيّارات جيبّ تحمل الرشاشات، شاحنات، باصات، حوّامات. هكذا يرى الطفل جانبَي عالمه.

في روايتهم للأحداث الجارية في الوطن المشطور، يعمد بعض الأطفال إلى تقسيم الورقة إلى نصفين: الصهيونيون من جهة والأطفال من جهة، ثانية. جهة مكتظّة بالأسلحة وجهة باليافطات والحجارة، تفصل بينهما متاريس من براميل وصخور، بينما اعمدة الدخان المتصاعد من الإطارات المحترقة يختلط بدخان الغاز المسيل للدموع.

في إحدى الصور التي رسمها شاب اعتقل أخوه الأكبر، ولم يُشاهده منذ ذلك الحين، يحتلّ الصهيونيون المدى الأفقيّ الأوسع للورقة، في ما ينحشر الفلسطينيّون في إحدى الزوايا. أمّا في صورة أخرى من تصوير شاب آخر، يبدو الصهاينة هم المحشورون في الزاوية العليا من التأليف العاموديّ، بينما المتظاهرون الفلسطينيّون يحتلّون معظم المدى في الأسفل. في كلا الحالتين، يظهر الصهيونيون جميعاً بوجوه نحاسيّة، وبزّات بلون رماديّ معدنيّ. إنّ الأطفال يوفّرون الألوان النادرة في متناولهم من أجل تلوين الشخصيّات الفلسطينيّة الإفراديّة واليافطات.

ليل المخيّمات الطويل

حينما يُخْرَقُ الخطّ الفاصل بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، يتجلّى عالم مظلم. بدأب، يرسم الطفل الذي لا يفوته شيء التضحيات المروّعة التي يتكبّدها الفلسطينيّون. بالتفصيل نشاهد ما قد شاهده الأطفال أنفسهم: نسف البيوت، ضرب الجنود لرجل بالغ، جرح صبيّ، اعتقال جماعي لتلامذة المدارس، امرأتان قيد التحقيق، اعتقال مراهقين، عصب أعين فتيان وتقييدهم بالسلاسل، امرأة في السجن، جنود يُبْعِدُون مناضلاً عبر الحدود، رمي أربعة من الفلسطينيّين من طائرة حوّامة، شابّ يُدْفَنُ حيّاً.

شاهد الآخرون نتفاً من تلك الأحداث، من على مسافة مريحة، مبتسرة عمداً في برقيّات وكالات الأنباء. أمّا الأطفال الذين أنتجوا تلك الأعمال الفنّيّة، فإنّهم يعرضون علينا كيف عاشوا أهوالها وكيف خرجوا من الظلمات.

لذا، لا يفاجئنا أن تكون المناظر الليليّة تراود عالم هؤلاء الأطفال. على أنّ الأداء الغنائيّ لا ينمّ عن أيّ خوف من العتمة، بل على العكس من ذلك، فالأصحّ أنّ الأطفال يصوّرون الليل لإبراز قيمة لون فاقع، أو وميض نجمة بعيدة. توفّر هذه المناظر الليليّة مؤشّراً ملموساً للجواب على الذين يتساءلون من أين يأتي هؤلاء الأطفال بالإيمان والجسارة في مواجهتهم الجنود المدجّجين بالسلاح، وليس في حوزتهم غير الحجارة.

المذهل في هذه المجموعة من الصور الزيتيّة هو فانتازيا رقيقة بعنوان: “العودة إلى مخيّم عماري في ليلة منجّمة” هو طفل تشرّب تقاليد الحنين لـ “العودة” على يد كهول المخيّم الذين تشرّدوا من بيوتهم عام 1948، يحاول تفسير الحلم الوطنيّ عن “العودة”. على أنّ الولد ابن الثلاثة عشر ربيعاً لم يعرف في حياته من “بيت” غير المخيّم. لذا تجده يلجأ إلى سحر  الليل لإخفاء معالم البؤس المزرية في “بيته”، وأيضاً – والأهمّ – ليستظهر النور الشحيح المتسلل من عالم المحرومين القاتم. وهكذا، فالأنوار الذهبيّة في اللوحة لا تنبعث من الأفق البعيد، ولا من النجوم العديدة التي تملأ السماء فوقنا، إنّما تصدر من داخل مساكن مخيّم اللاجئين ذاتها، وكلّ شعاع نور تبثّه نافذة بيت لا يلبث أن ينعكس كتلة نور تتدحرج على تلال الوطن الحبيبة. أمّا الطفل، فإنّه يحمل فانوس الأسطورة في يد، ويسوق باليد الأخرى بقرة – أثمن رفيق للفلّاح، مقتفياً آثار أقدامه في العتمة نحو ذلك الضوء.

 

المصدر: الوفاق/ وكالات