"شراء السيّارة مستحيل"..

السوريون تحت رحمة الأسعار الجنونية

أسعار السيارات تواصل ارتفاعها الجنوني في الأسواق السورية على الرغم من كثرة العرض وقلّة الطلب، وخلال السنوات القليلة الماضية لجأ عدد لا بأس به من السوريين إلى شراء السيارات المستعملة كوسيلة للادخار وحفظ الأموال.

2023-06-07

في سوق السيارات ضمن منطقة المزرعة في العاصمة السورية دمشق، يجلس أصحاب مكاتب السيارات الجديدة والمستعملة لأيام عديدة من دون تسجيل عملية بيع واحدة، في ظل حالة الركود التي تشهدها الأسواق داخل سوريا بشكلٍ عام وفي دمشق بشكلٍ خاص.

وعلى الرغم من كثرة العرض وقلّة الطلب إلّا أنّ أسعار السيارات تواصل ارتفاعها الجنوني في الأسواق، بشكلٍ لا يتناسب بالمطلق مع القدرة الشرائية للسوريين، وأصبح امتلاك سيارة خاصّة -حتى وإن كانت مستعملة وسنة إنتاجها قديمة- بالنسبة إليهم ضرباً من المستحيل.

سوق “المزرعة” ليست السوق الوحيدة داخل دمشق الذي تندر فيها عمليات البيع، فمختلف أسواق السيارات في برزة وشارع بغداد والمزة انخفضت فيها المبيعات إلى مستويات قياسية، في ظل الارتفاع الكبير للأسعار نتيجة لعوامل عديدة.

ماجد كبتول تاجر سيارات وصاحب مكتب سيارات مستعملة في منطقة المزة بدمشق يؤكّد أنّ كثرة عرض السيارات في الأسواق لا تؤدي إلى انخفاض الأسعار، بل ما يحدث هو العكس تماماً فالأسعار ترتفع بشكلٍ يومي، مع غياب المنافسة من السيارات الجديدة نتيجة منع التصدير إلى سوريا المعمول به منذ بداية الحرب في البلاد قبل 12 عاماً، كما تعرّض طوال هذه المدة عدد كبير من السيارات للتلف نتيجة الأوضاع الميدانية، من دون رفد الأسواق بسيارات جديدة مستوردة، وهو السبب الرئيسي للأوضاع الحالية.

وعن الحركة التجارية داخل الأسواق، يشير كبتول إلى أنّ عمليات البيع والشراء تراجعت هذا العام بشكلٍ كبير، لكن بالمقابل ارتفعت نسبة عمليات “المداكشة” أيّ تبديل السيارات بين الأشخاص مع دفع الفارق النقدي، بمعنى أن شخصاً يمتلك سيارة رخيصة الثمن يضع مبلغاً إضافياً من المال مع سيارته مقابل الحصول على سيارة أفضل من شخص آخر.

السيارات المستعملة في سوريا سجّلت خلال الأشهر الماضية ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، حيث وصل سعر سيارة كولف تاريخ صنعها عام 1976 إلى نحو 25 مليون ليرة سورية “2777 دولاراً”، أمّا السيارات الأحدث نسبياً فيرتفع سعرها بنحو ثلاثة أضعاف تقريباً، حيث يصل سعر سيارة كيا ريو تاريخ صنعها 2007 إلى 75 مليون ليرة “8333 دولاراً” أما سعر سيارة كيا سيراتو، تاريخ صنعها 2009، فيصل إلى نحو 100 مليون ليرة “11100 دولار”.

الخبير الاقتصادي علاء أصفري يؤكّد  أنّ أسعار السيارات في سوريا تُعتبر الأعلى عالمياً، بسبب نسبة “الجمارك” المفروضة على كل سيارة تدخل إلى البلاد، إضافةً إلى وجود عدد كبير من الضرائب، ما يجعل سعر السيارة داخل سوريا أكبر بضعفين أو ثلاثة أضعاف عن سعرها الحقيقي في السوق العالمية.

إضافةً إلى ذلك يؤكّد أصفري أن القرار الحكومي بمنع الاستيراد بهدف توفير القطع النقدي الأجنبي في بداية الأزمة أدى إلى ارتفاع الأسعار في أسواق السيارات المستعملة، حيث تبلغ قيمة سيارة مستعملة قديمة ما يُعادل 10 آلاف دولار، في حين يكون ثمنها 3 آلاف دولار في الدول المجاورة، ما يجعل سوق السيارات في سوريا سوقاً خطيراً وغير صحّي قياساً مع الدول العربية والأجنبية.

أمّا الرسوم الجمركية أو ما يُعرف اصطلاحاً لدى أصحاب ومكاتب السيارات باسم “الجمركة”، فهي تتراوح ما بين 180% و230% من سعر السيارة، وذلك بحسب نوع السيارة وسنة إنتاجها وسعة المحرّك، وهذا الأمر يُعد من الأسباب الرئيسية لخسائر وكلاء السيارات الذين توقّفوا عن الاستيراد، بعد أن كانوا يستوردون سنوياً نحو 90 ألف سيارة إلى البلاد.

الارتفاع الجنوني في أسعار السيارات داخل سوريا، انعكس بشكلٍ مباشر على أسعار قطع التبديل، والتي وصلت نسبة الارتفاع فيها إلى حدود 100% خلال العام الأخير فقط، وهو ما انعكس سلباً على أصحاب السيارات، ولا سيما العاملين منهم في قطاع النقل، وأصحاب سيارات الأجرة.

كما أعلنت الحكومة السورية خلال السنوات الماضية إيقاف استيراد قطع تبديل السيارات، ما أدى إلى شحّها في الأسواق، واعتماد أصحاب المهن في كثير من الأحيان على القطع المستعملة لإصلاح السيارات.

الخبير الاقتصادي عامر شهدا يشير  إلى أن معظم السيارات في سوريا مستوردة، وأسعارها تكون في الغالب خاضعة لأسعار صرف الدولار مقابل الليرة السورية، إضافةً إلى تأثير إيقاف الاستيراد على الأسواق، وارتفاع نسبة “الجمركة” المفروضة على السيارات، مع عدم وجود معامل لتصنيع السيارات داخل سوريا، وإنّما الموجود حالياً هو معامل لتجميع قطع السيارات فقط.

من ناحية أخرى، يؤكّد شهدا أنّ اللجوء إلى شراء السيارات في الوقت الحالي له انعكاسات سلبية على الاقتصاد في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار، لأن ذلك يعني تجميد رأس المال، الذي من الممكن أن يتم استخدامه والاستفادة منه في مشاريع إنتاجية تنعكس إيجاباً على العجلة الاقتصادية.

تعتبر سوريا من أغلى أسواق السيارات في المنطقة، فعلى سبيل المثال يبلغ سعر سيارة مازدا زوم 3 نحو 12 ألف دولار، بينما يكون سعر السيارة نفسها في العراق مثلاً من 4 إلى 6 آلاف دولار، في حين أن سعر سيارة كيا ريو في سوريا يصل إلى 8500 دولار بينما سعرها في لبنان لا يتجاوز 5 آلاف دولار، وهذا الفرق بالأسعار كان سببه المباشر الأوضاع الاقتصادية الداخلية وارتفاع أسعار الصرف والرسوم الجمركية وإيقاف الاستيراد.

شراء السيارات المستعملة للادخار

خلال السنوات القليلة الماضية لجأ عدد لا بأس به من السوريين إلى شراء السيارات المستعملة كوسيلة للادخار وحفظ الأموال، ولا سيما مع تغيّر سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة السورية، وبالتالي فإن امتلاك السيارة يعني الحفاظ على القيمة الرائجة للعملة، وبالتالي لا تخسر الأموال جزءاً من قيمتها كما يحدث إذا تم تجميدها وارتفع سعر الصرف.

وفي هذا السياق يؤكّد الصحافي الاقتصادي حازم عوض  أنّ الناس خلال الأزمات الاقتصادية تتوجّه نحو الملاذات الآمنة، فكل إنسان يسعى لاستثمار أمواله والربح منها ويكون ذلك عن طريق المشاريع الاستثمارية، وهي في الغالب تكون إمّا العقارات أو السيارات، وخاصةً في حال اتُخذ القرار داخل الدولة بإيقاف استيراد السيارات للحفاظ على القطع الأجنبي، وهنا يُصبح امتلاك السيارة تجارة رابحة حُكماً.

ويضيف عوض أنّ البعض الآخر يسعى للحفاظ على قيمة الأموال الموجودة معه، لذلك يتم اللجوء إلى شراء الذهب كملاذ آمن من انهيار محتمل للعملة المحلية.

ويشير الصحافي الاقتصادي أيضاً إلى أنّ السوريين الذين خسروا تجارتهم في الحرب وتبقّى معهم بعض الأموال، لجأوا إلى تجارة السيارات من خلال شراء سيارة مستعملة وإجراء تحديثات بسيطة عليها ومن ثم بيعها بسعر مرتفع، للحصول على ربح مادي منطقي.

اليوم، لا يفكّر السوريون مجرد التفكير بشراء سيارة، حتى وإن كان تاريخ صنعها قديماً، فالأسعار غير المنطقية للسيارات في الأسواق لا تتناسب بالمطلق مع قدرتهم الشرائية، وهم بالكاد يستطيعون سد رمقهم في اليوم الواحد، فكيف تكون لهم الجرأة على التفكير بامتلاك سيارة تكلّف الملايين.

عمر الخطيب “35 عاماً” يعمل ضمن مكتب تسويق في منطقة البرامكة بدمشق يقول : ” قبل الحرب كان امتلاك السيارة ممكناً لشرائح عديدة من السوريين، في ظل عروض التقسيط الواسعة التي كانت تقدّمها شركات السيارات الموجودة في الأسواق السورية، لكن بعد الحرب توقّفت جميع تلك الشركات عن العمل، ولا يوجد اليوم عروض تقسيط نهائياً، كما أن الرواتب حالياً متدنية وقيمة العملة متراجعة مقابل الارتفاع الجنوني لأسعار السيارات، لذلك نحن اليوم نفكّر في الطعام والشراب فقط، والسيارات أصبحت رفاهية مُطلقة لا تناسب شرائح واسعة من السوريين”.

سوق جديدة لبيع السيارات

إضافةً إلى الأسواق التقليدية لبيع وشراء السيارات، انتشرت في سوريا خلال السنوات الأخيرة أسواق جديدة لعرض السيارات والمتاجرة بها، حيث شكّلت مواقع التواصل الاجتماعي سوقاً واسعة لبيع وشراء السيارات على نطاق جغرافي واسع لا يقتصر على حدود المدينة الواحدة، كما أن هذه السوق تلغي الحاجة إلى وجود “مكتب السيارات” التقليدي، والذي يأخذ عمولة من عملية البيع والشراء.

وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا مجموعات وصفحات عديدة لبيع وشراء السيارات المستعملة القديمة منها والحديثة، حيث يعرض الأشخاص الراغبون بالبيع سياراتهم ومواصفاتها وصورها على تلك المنصات مع ذكر رقم الهاتف من أجل التواصل من قبل الراغبين بالشراء.

سوق السيارات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لها إيجابيات عديدة، فإضافة إلى إلغاء عمولة مكتب السيارات، تعمل هذه السوق على توفير الوقت والجهد اللازم للذهاب إلى السوق التقليدية، إضافةً إلى الحصول على خيارات متنوعة من السيارات المعروضة للبيع.

لكن بالمقابل فإن لهذه الوسيلة سلبيات عديدة، حيث يحاول البعض من الراغبين ببيع سياراتهم وضع أسعار عالية وغير منطقية، وفي الغالب تنتقل هذه العدوى من شخص إلى آخر، ما يؤدي إلى حدوث حالة من التخبّط في سوق السيارات، أما السلبية الأخرى لمواقع التواصل الاجتماعي، فتكمن في عرض مواصفات للسيارات مخالفة للواقع من حيث جودة السيارة وإمكانياتها، وهو ما يؤدي إلى فشل كثير من عمليات البيع عبر الإنترنت.

المصدر: الميادين