في ذكرى وفاة صاحب المصنفات الجمّة

دور الشيخ المفيد في التأصيل لإطار علمي لفقه الشيعة

الإمام الخامنئي( دام ظله): "إنّ الشيخ المفيد هو الشخص الذي استطاع أن يوجد الإطار العلمي المقبول والمعتبر لدى الشيعة بحيث جمع المواد المأثورة والأصول المتلقاة في نظام علمي ظل لابثاً في حوزة الفقاهة الشيعية"

2022-11-30

الوفاق

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: العلماء ورثة الأنبياء. هكذا وصف الإسلام العلماء، وهذه هي منزلتهم فالأنبياء والأئمة (ع) وأمناؤهم هم فخر ومجد الأمة، والشيخ المفيد هو أحد أعلام هذه الأمة، ومن علمائها الأمجاد، هذه الشخصية العلمية التي شغلت العالم ولا تزال بحضورها وإنتاجها وإسهاماتها الفكرية والمعرفية الأصيلة، وتركت بصماتها على مجمل الفكر الإسلامي الأصيل، وشكّلت ظاهرة مميّزة تتطلب من الباحثين والمفكرين العمل  على دراسة خصائصها والتعرف عليها، والإفادة من محطاتها الغنية على المستويات كافة، واستلهامها وتعريف الأجيال إلى هويتها وأصالتها، من هذا المنطلق وفي ذكرى وفاته نكتب هذه المقالة ؛ لنتعرف بها على هذا العالم الجليل.

ولادته ونشأته العلمية والفكرية

الشيخ المفيد من علماء الشيعة الإمامية الإثني عشرية، عاش في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري وأوائل القرن الخامس الهجري، إسمه الحقيقي هو محمّد بن محمد بن النعمان الحارثي العكبري البغدادي الشهير “بالمفيد”، وهو حفيد التابعي الشهيد سعيد بن جبير المقتول بسيف الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي. وأمّا لقبه فالمعروف عند المترجمين له أنّ هذا اللقب هو من أستاذه المفسر والمتكلم المعتزلي علي بن عيسى الرماني، أمّا ابن شهر آشوب فيقول في كتابيه “معالم العلماء” و”مناقب آل أبي طالب” إلى أنّ لقب “المفيد” مُنح للشيخ من قِبَل الإمام المهدي(عج).

عاصر الشيخ المفيد عدداً من الخلفاء العباسيين منهم المطيع لله (الفضل بن المقتدر) للمدة التي كان بها الخليفة (334هـ ـ 363هـ) وكذلك عاصر عدداً من البويهيين وكان في مقدمتهم عضد الدولة الذي كان يجلّه كثيراً، كانت الحياة الفكرية في بغداد في عصره مزدهرة كثيراً وامتازت بالخصب العلمي والأدبي، وممّا ساعد على اتساع الحركة العلمية في بغداد حين كانت مركزاً للعالم الإسلامي وحاضرته العلمية والسياسية فكانت الرحلة تُشد إليها من كل مكان، فنشأت المدارس ودور العلم، وهذا ما حدا بوالد الشيخ المفيد إلى أن يترك بلدته الصغيرة القريبة من بغداد “عكبرا” ويقصد مع ولده بغداد ليبدأ هناك رحلته العلمية وتلقي مختلف المعارف وفنون العلم على يد كبار العلماء هناك، وكان من جملتهم المتكلم والفقيه والأصولي والمحدث واللغوي والأديب وكان هؤلاء لا يقتصرون على طائفة واحدة فمنهم الإمامي والمعتزلي البصري والبغدادي، وغير ذلك من التوجهات المعرفية التي نهل منها والتي أعانته على بناء شخصيته العلمية الموسوعية والمتنوعة، فأعطاه ذلك قدرة على محاججة الخصوم والموازنة والمحاكمة بين الآراء والأفكار وفق ميزان النص والعقل وبالتالي تصويب الأفكار الخاطئة باتجاه المسار الصحيح بغية التخفيف من حدة الانقسام بين مذاهب وفرق المسلمين، وهذه الصفة التي اتسم بها الشيخ المفيد في خضم المنازعات والمشاحنات والمخاصمات التي كانت سائدة في زمنه ساعدت على الكشف عن الكثير من الآراء والمفاهيم الباطلة وهذا مما ساعد على تضييق مساحة الخلاف والتباعد بين الفرق والتيارات والمذاهب.

معروف بالعبادة والمثابرة والزهد

فضلاً عن سموّ المقام العلميّ للشيخ المفيد، كان رجلاً معروفاً بالتقوى والطاعة لله تبارك وتعالى، وبالعبادة والمثابرة والزهد. وما يُذكر عن أخلاق الشيخ المفيد، فإنه كان كثير الصدقة، ومتواضعاً، فضلاً عن كثرة صلاته وصومه، كما كان يرتدي اللباس الخشن؛ لدرجة أنه أُطلق عليه لقب شيخ مشايخ الصوفية كتعبير عن زهده بالدنيا، وقد ذكر صهره “أبو يعلى الجعفري”، أنّه كان قليل النوم في الليل ويقضي معظم وقته في المطالعة والتدريس والصلاة وتلاوة القرآن.

صلته بالإمام المهدي (عج)

إنّ الشيخ المفيد كان حليفاً للتوفيق والنجاح، أهلاً للتأييد والتسديد واللطف الخفي ؛ لذلك نجد أنّ الإمام الحجة المنتظر (عج) قد اهتم به، ووصفه بأوصاف جميلة، فقد خاطبه بالأخ السديد، والولي الرشيد، الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه، كما أنّه عليه السلام بعث بعدة رسائل إلى ثقة الإسلام الشيخ المفيد، ذكر رسالتين منها الشيخ الطبرسي، وقد ذيلتا بتوقيعه الشريف، حوت الرسالتان أموراً بالغة الأهمية، وهي: الإشادة بالشيخ المفيد الذي هو أحد دعائم الإسلام في علمه وفضله وتقواه وشدة تحرجه في الدين وأنه قد سمح له في مكاتبة الإمام (ع) والاتصال به وتحمله شرف السفارة بينه وبين الشيعة . كذلك إنّ الإمام (ع) قد أشار إلى المكان الذي يقيم به في حال غيبته وأنّه بعيد عن مساكن الظالمين وأن إقامته فيه محجوب عن أعين الناس يستند بذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته التي قضت بعدم ظهوره ما دامت دولة للفاسقين والظالمين على وجه الأرض، كما أنه يتتبع بكل دقة جميع شؤون شيعته ولا يعزب عنه أي أمر من أمورهم فهو ساهر على رعايتهم ودفع البلاء عنهم ولولا عنايته بهم لأخذهم الظالمون من كل جانب ومكان ، كما أمرهم  بتقوى الله تعالى والاجتناب عن معاصيه وإخراج ما عليهم من الحقوق الشرعية ولو أنهم اتقوا وأطاعوا الله تعالى إطاعة حقيقية لما حُجب الإمام عنهم ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدته ولكن ذنوبهم هي التي حالت بينهم وبين الالتقاء بإمامهم، كما أخبرهم عن فتنة وكارثة مدمرة تحل بهم يهلك فيها الكثيرون، وقد أخبر عن بعض الملاحم ستظهر وتتحقق قبل ظهوره (ع) من حدوث آية في السماء وغير ذلك.

مكانته وسيرته العلمية

لقد حاز الشيخ المفيد مكانةً علمية جليلة وأحرز التفاف العلماء والمثقفين إليه في بغداد ومن غيرها من البلدان، وقصده السائلون يستجوبونه، وجلس إليه طلاب العلوم الدينية ينهلون العلوم والمعارف وتعلم أساليب الجدل والمناقشة والحوار العلمي الهادف للوصول إلى الحقائق العلمية بأسلوبٍ رصين. فعُد موسوعة زمانه في علوم الشريعة وغيرها، فكانت أفكاره تتفتح كتباً موسعة ورسائل موجزة في مختلف علوم الدين ومناظرات علمية وفكرية بقيت ليومنا هذا دروساً ومساراً وشعاعاً يستنار في فهم الحقائق مقرونة بأدلةٍ وثوابت رصينة.

أمّا عن مؤلفاته فقد ذكر الشيخ الطوسي وهو من تلامذته البارزين بأنّ مؤلفاته ناهزت المائتي مصنف، وقد عُرف بتصانيفه الغزيرة الّتي انتشرت بين الناس، وذاعت بينهم، فكان يُعرف بـ “صاحب التصانيف الكثيرة”. وقد تتلمذ المفيد عند أكبر العلماء والفقهاء في حينها كالشيخ الصدوق وابن الجنيد الإسكافي وابن قولويه والرماني من أبرز أساتذته. في حين تتلمذ تحت يده كبار الفقهاء بعده كالشيخ الطوسي والسيد المرتضى والسيد الرضي والكراجكي والنجاشي.

تراثه الكلاميّ والفلسفيّ

اتسمت مؤلّفات الشيخ المفيد بالشموليّة والاستيعاب لكثيرٍ من العلوم الشائعة آنذاك، إلّا أنّ السمة الغالبة فيها التركيز على علمي الفقه والكلام بوصفهما ركنين مهمّين في التكوين المذهبيّ لأيّ مذهبٍ.

فنجده في كتب علم الكلام يعالج موضوعاته المختصة بالدفاع عن العقيدة وتوضيح الأصول والقواعد العامة للدين الإسلامي وبيان التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد وما يتصل بها من المسائل الاعتقادية، وغيرها بأسلوبٍ سهل بعيد عن الغموض والإبهام بالاعتماد على أسلوبٍ بليغ ورصين قائم على وضوح العبارة وسهولتها ومناقشة الآراء بأسلوبٍ صريح وهادئ مستنداً على الأدلة العقلية.

يقول الشيخ عبد الله نعمة عن الشيخ المفيد في كتابه فلاسفة الشيعة حياتهم وأراؤهم: “ترك المفيد مؤلّفاتٍ متنوّعةً وفي شتّى المواضيع، كانت طبيعة عصره بحاجةٍ ملحّةٍ إليها، وأكثرها في العقائد والردود أو النقوض الّتي كانت صدًى لروح العصر الّذي عاشه، وانعكاسًا واضحًا لطبيعة تلك الحقبة الصاخبة بالجدل الدينيّ والمناظرات المذهبيّة، ويمثّل أبرز ثورةٍ عقديّةٍ عرفها المسلمون يوم كانت بغداد مسرحًا رحبًا لعقائد وآراءٍ ونزعاتٍ ومذاهب في مختلف أشكالها وألوانها، وهي في نقاشٍ وجدلٍ مستمرّين يحتضن كلّ ذٰلك حرّيّةٌ واسعةٌ تتّسع حتّى للملحدين والزنادقة”.ثمّ يضيف قائلًا: “وكان على المفيد وهو زعيم الشيعة الإماميّة العلميّ والفكريّ  أن ينبري لمصارعة زعماء تلك المذاهب والنزعات بما وهبه الله من طاقةٍ علميّةٍ حيّةٍ، وفكرٍ واعٍ رحبٍ، ومن هنا كانت مؤلّفاته على الأكثر ذات طابعٍ متميّزٍ عن مؤلّفات سواه، يظهر عليها روح الجدل والمناظرة، أو روح الدفاع العَقَديّ أو التقرير”.

أمّا فقهياً لقد ترك الشيخ المفيد تراثاً فقهياً ثرياً استطاع عبره أنّ يرسم المعالم الواضحة لفقه أهل البيت(ع)، وذلك عبر المنهج الإستدلالي الذي سار عليه فأخرج الفقه من دائرة الوقوف على النصوص والافتاء طبقاً لمتن الرواية كما كان عليه الحال مع الشيخ الصدوق والمدرسة القمية، واجتنب بالتالي الوقوع في القياس والاستحسان والرأي والأدلة غير المعتبرة التي وقع فيها إبن الجنيد، يقول الإمام الخامنئي( دام ظله) حول فقاهة المفيد وأثرها الكبير على الفقه الإمامي بعده: “إنّ الشيخ هو الشخص الذي استطاع أن يوجد الإطار العلمي المقبول والمعتبر لدى الشيعة بحيث جمع المواد المأثورة والأصول المتلقاة في نظام علمي ظل لابثاً في حوزة الفقاهة الشيعية. وما أنجزه الشيخ هو نفسه مسار التقنين الفقهي الذي اتبع من بعده طوال قرون حتى اليوم، ليصل بالفقه إلى ما هو عليه الآن من نضجٍ وتكامل”.

وفاة الشيخ المفيد

لقد كان يومًا مشهودًا ومدهشًا ذلك اليوم الّذي رحل فيه الشيخ المفيد في سنة 413 هـ. فقد خرجت بغداد بثمانين ألف مشيّعٍ ومودّعٍ في يومٍ مشهودٍ كيوم الحشر كما يصفه بعض من حضره ، حضر الجميع لوداعه من كلّ المسلمين والفرق الإسلاميّة، حتّى ضاقت بهم أكبر ساحات بغداد في (ميدان الأشنان)، ولم يُرَ يومٌ أكبر منه لشدّة زحام الناس للصلاة عليه، وقد صلّى عليه تلميذه وخليفته الشريف المرتضى، ودُفن في داره بضعة سنواتٍ، ثمّ نُقل إلى مقابر قريشٍ ليدفن بالقرب من ضريحي الإمامين الكاظميّن (ع).