بين الصلابة والتبلد: ما بيشبهونا

في الرابع عشر من شباط / فبراير 2008، انتشرت صورة محزنة: شيخ ثمانيني يبكي ويعتنق رجلًا تِرْبَه بنظارتين، خلفهما عينان جامدتان. التُقطت الصورة في تقبل التعازي بالشهيد القائد عماد مغنية. سطّر أحد الكتاب المشهورين، حازم صاغية، مقالًا نشره في موقع مموّل من السفارة الأميركية، ناو ليبانون (يصدر حاليًّا بالإنكليزية ويديره إيلي خوري – راجع موقع جريدة الأخبار عدد 17 حزيران 2021). كان هذا الأخير ناشطًا، لا بل سبّاقًا على كثير من أمثاله الحاليين، في معاداة المقاومة والعمل على الإساءة إليها وتتبع أي عثرات أو سقطات في مجتمعها وبيئتها

2023-12-08

وكان صاغية “يحرتق” فيه بمقالات مقابل بدلات مجزية – على الأرجح – ، إلى جانب عمله الأساسي في الصحيفة الآفلة، “الحياة اللندنية”، التي كانت مملوكة من سلطان بن عبد العزيز وولده.

 

تحدث صاغية عن صورة “الأب الباكي”، الذي لا يخجل أن يعبّر عن مشاعره تجاه فقد ابنه. وذهب إلى مقارنة هذا الأب بأم سمعها وهي ترثي ابنها بالقول إنها مستعدة للتضحية لو كان لها المزيد من الأبناء، فوجد في قولها ما يدل على التبلّد وفقدان الحس الإنساني، الفطري والطبيعي، الذي مثله الأب في انفجاره بالبكاء أمام الناس والإعلام، فتصدرت صورته المشهد.

 

في الحقيقة، فإن الأب الباكي لم يكن الحاج فايز مغنية، بل عزيزًا اعتنقه وبكى، فتجد الحاج فايز وكأنه يواسيه ويهدئ من روعه. وكذا كانت تلك المرأة زوجته، الحاجة آمنة سلامة، أم عماد، تواسي من يعزيها وتخفف عمن تدمع عينه أمامها.

 

اشتبه الأمر على صاغية، فالأبوان مغنية لم يكونا من وجوه الإعلام، ولم تستضفهما شاشات ولا صفحات جرائد ولا منابر، بل كان كل منهما في صدقة سر، مجاهدين عاملين في العمل الإسلامي منذ السبعينيات.

 

واشتبه عليه أكثر – إن أحسنّا الظن به – إذ عدّ صلابة أم عماد تبلدًا، فالسيدة آمنة امرأة مكلومة ولكنها غير مكسورة، وهي مثل زوجها تريد أن تفوّت على الأعداء فرصة التشفي والشماتة، وهذا أمر لا يستطيع معه كثيرون صبرًا.

 

تأخذنا هذه الحادثة إلى أخرى سبقتها بما يقارب عقدًا من الزمن. مساء الثالث عشر من أيلول 1997، كان الأمين لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله يتحضر لإلقاء خطاب في احتفال إحياء ذكرى شهداء مجزرة 13 أيلول 1993 (التي ارتكبتها السلطة اللبنانية يومها بحق متظاهرين خرجوا للاحتجاج على اتفاقية أوسلو)، حين وصله الخبر اليقين: ولدك البكر هادي استشهد مع المقاومين علي كوثراني وهيثم مغنية في مواجهات جبل الرفيع.

 

للّحظة هيبتها وجلالها. الجميع يترقب كيف سيبدأ السيد نصر الله خطابه، هذا إذا كان سيلقيه أصلًا.

 

حلت الساعة التاسعة. اعتلى السيد المنبر. تحدث نحو نصف ساعة عن المناسبة التي تعني للحزب الكثير، خصوصًا أنها كانت عملية إعدام جماعي، وبالأخص استهدفت أختين عزيزتين في جريمة هي الأولى من نوعها.

 

بدأ العرق يتصبب على جبهة سماحته ويتقطر على نظارتيه، فالصيف ما زال يلقي بسطوته على الجو الخريفي. يُنقل عن السيد قوله عن تلك اللحظة إنه تعمّد ألا يمسح العرق، وقد تركزت عليه عشرات الكاميرات التابعة لوسائل إعلام محلية وعربية وأجنبية، حتى لا يُظن أنه يبكي. ولكن، في حوار تلفزيوني لاحق، سئل السيد إن كان بكى على هادي، فأكد أنه فعل، ولكن في خلوة مع نفسه من دون أن يُشعر أحدًا.

 

تجدد المشهد يوم عيد الاستقلال الثمانين، حين ارتقى عدد من المقاومين شهداء بينهم نجل رئيس كتلة الوفاء للمقاومة. في تلك الليلة شخصت الأبصار إلى الحاج محمد رعد، الرجل الذي يوصف برزانته حد الجدّية، شوهد مرات عديدة يبكي عددًا من الشهداء وينتحب على أضرحتهم وفي رثائهم. اختصر الحاج الموقف قائلًا: قصد فوصل، وعتبي أنه سبقني وكان أشطر مني. وفي الوقت الذي شوهد فيه في المراسم الرسمية لتشييع ولده الشهيد يستقبل معزيه بابتسامة عريضة، شوهد يبكي على ضريح الشهيد، بين رفاقه الذين تجمهروا حوله يرثون “الفتى الذي كان في حيّنا”.

 

لم تخلُ كل هذه المواقف من الغمز واللمز والانتقاد حد الاتهام بالتبلد. هؤلاء يتهمون أمهات الشهداء وآباءهم بأنهم يتصنّعون الصلابة والتسليم والرضا، وإذا لمحوا مظاهر ثكل وأيم، اتهموا من أبداها بالانكسار والتذمر والتململ.

 

لا أدري إن كنا دائمًا مضطرين أن نشرح للناس أننا أناس عاديون جدًا. شخصيًا أتفهم الاستغراب ولكن لا أهضم الاستنكار. كيف تنكر على أم أو أب الصلابة والتسليم؟ فإن كنت قاصرًا عنهما، فإنه يوجد رجال ونساء وأبناء وبنات وأزواج وزوجات ربط الله تعالى على قلوبهم، مثلما ربط على قلوب أبنائهم فخاضوا ميادين الوغى ذودًا عن كل الأمة، حتى الشروخ النائمة فيها.

 

مع شهداء الدفاع المقدس، مرّ الكثير الكثير من المشاهد المشابهة، ولكن، من بينها خصوصًا مشهد والدة أمام جثمان ولدها المسجّى، وهي تثني عليه كيف بيّض وجهها عند السيدة الزهراء(ع)، فتمسح على وجهه وجسده وكأنها تهدهد له لينام، وتدعو النساء حولها إلى أن لا يبكين على عريسها!

 

هل هذه أم متبلّدة؟ هل تعرفون أنتم ماهية علاقة هؤلاء بالسيدة الزهراء(ع) وبالنبي(ص) وآله(ع) وبتضحياتهم وتسليمهم بعين الله تعالى كل ما جرى عليهم؟ هل تريدون أن تلاحقوا دموعهم وأنّاتهم وآهاتهم حتى تكتشفوا أنهم بشر؟ ربما، طالما أن هناك من يردد: “ما بيشبهونا”!

 

أ.ش

المصدر: الاخبار