الدعاية السياسية الأميركية في السينما.. “القيم” vs الواقع

تُستَخدم الدعاية السياسية للإقناع والتأثير في الجمهور لدفعه نحو تبنّي اتجاهات وأفكار أو سلوك محدد. غالبًا، تصبّ هذه الأفكار والاتجاهات والسلوكيات في مصلحة الجهة القائمة على هذه الدعاية. وتقول أستاذة الاتصال السياسي والدعاية "جينفير مرسيكا" في مقال على موقع "ذا كونفرزيشن" (The conversation) الأميركي إن "الدعاية هي الرسائل التي تشن حربًا، وهي معادية للديمقراطية، حيث إنها تؤثر في العقول باستخدام "استراتيجيات شريرة"، مثل التخويف والتضليل والترويج لنظرية المؤامرة".

2024-01-27

كيف تروّج أميركا لنفسها حول العالم؟

 

يقول الباحث والمتخصص في العلاقات الدولية الدكتور حسام مطر إن “الولايات المتحدة تستخدم الدبلوماسية العامة التي لها علاقة بالاتصال بالشعوب ومحاولة الوصول إليها للتأثير فيها واجتذابها، والتأثير في رؤيتها للولايات المتحدة الأميركية. هذا الاتصال الشعبي تقوم به الولايات المتحدة كدولة، وكذلك القطاع الخاص الأميركي، ويمكن أن تقوم به جمعيات أهلية أميركية وأفراد أميركيون، هي دبلوماسية يشترك فيها الجميع، موجّهة نحو الشعوب حول العالم وفق رسائل محددة لكل مجتمع مستهدف، فكلّ جمهور تُوَجَه إليه رسائل محددة بحسب ثقافته وسياقه وخصائصه، عبر قنوات الدبلوماسية العامة المتنوعة، وقد تكون من خلال المجتمع المدني أو الإعلام أو برامج التبادل الطلابي أو النخبوي، وأيضًا بشكل أساسي من خلال الفنون”.

 

يلفت د. مطر إلى أن “الفنون هي واحدة من القنوات الرئيسية التي تحاول الولايات المتحدة استخدامها لنقل رسائل سياسية وثقافية للجماهير المستهدفة حول العالم للتأثير بأفكارها وقيمها وثقافتها والتأثير فيها معرفيًا، وهذه الفنون متنوعة وتشمل الدراما والغناء والرسم والرواية وأفلام الكرتون، كلّها قنواتٌ أساسية لنقل الرسائل إلى الشعوب المستهدفة لأن هذه الوسيلة اليوم رائجة حول العالم ومستهلكة، ومع عصر الإنترنت والعولمة بات من السهل جدًا استخدام هذه القنوات لإيصال رسائل بشكل كثيف وسريع ورخيص للشعوب، في ظل هيمنة الولايات المتحدة على مجال الإنتاج الدرامي والفني حاليًا، وهذا الأمر استُخدِم سابقًا ضمن الحرب الباردة بكثافة، ولكن الولايات المتحدة تستخدمه اليوم بشكل أكبر لأنه بات أَفعَل مع شيوع شبكات التواصل والإنترنت، وهذا ما يظهر من حجم النفوذ الذي تبنيه “نتفليكس” وما يشبهها من منصات جديدة”.

 

 

ما هي المبادئ التي تريد الولايات المتحدة ترسيخها من دعايتها السياسية حول نفسها؟

 

“أميركا النموذج الأوّل” هو واحد من الأهداف الأولى من خلال هذه الدعاية الأميركية، فهي وفق د. مطر تسعى أن “توصل عبرها للشعوب المختلفة رسائل حول أميركا نفسها وهويتها وصورتها ودور أميركا وسياساتها في العالم، وهنا يتقاطع هدفها مع القوة الناعمة، وتستخدم هذه الفنون في الجاذبية وتحديد الأجندات والإقناع، هذه الاستراتيجيات الثلاث تخدم أفكارًا حول أميركا كدولة ومجتمع وثقافة وسياسات وأدوار، ليصبح هذا النموذج الأميركي ملهمًا وجذابًا تنساق الجماهير إليه”.

 

يوضح د. مطر أن “ذروة المشروع الثقافي الأميركي هي القيم والثقافة الليبرالية بكافة أوجهها، وتضخها بشكل مكثف عبر الاعلام والفنون والدراما بما فيها بشكل أساسي السينما التقليدية أو منصات “نتفليكس” وما يشبهها، ويتضمن المنتج الدرامي رسائل تتناسب مع المصالح السياسية والثقافية الأميركية على مستوى موضوع المرأة والشذوذ والقضايا السياسية والدور الأميركي وكيفية ابراز الأصدقاء والأعداء واعادة تأويل وتقويل التاريخ، وكيفية تقديم القيم الجديدة لكل مجتمع بلغة وطريقة تتناسب مع سياق هذا المجتمع ليكون التأثير فيه عميقًا”.

 

خُلاصة ما تريد أميركا أن توصله من هذه الدعاية رسالة أساسية وفق د. مطر: “الهيمنة الأميركية خيرٌ للعالم والبشرية، وضرورية ولازِمَة وخَيِّرة، وتريد الخير للعالم، ومتفوقة ولا يمكن تحدّيها، ولا خيارَ إلا القبولُ فيها، ومن يلتحقون فيها ينالهم الإزدهار والرفاه والقوة، ومن يحاولون مواجهتها هم الأشرار والمتخلفون والارهابيون، وسيكون مصيرهم الهزيمة”.

 

 

 السينما والدعاية الأميركية

 

يقول الرئيس الأميركي الأسبق ثيودور روزفلت “السينما مكون اقتصادي واجتماعي مهم في المشروع القومي الأميركي”. ويتجلى التأثير الكبير للدراما والأفلام في تشكيل الرأي العام وتوجيه الانتباه نحو القضايا والقرارات السياسية الخارجية للولايات المتحدة، ومثّلت “هوليوود” أفضل مثال على التماهي بين السينما والسياسة، ولطالما كانت أداة طيّعة في خدمة الدعاية الأميركية. تقول مؤلفة كتاب “دور السي آي أيه في هوليوود” الكاتبة تريشيا جنكيز إن “تدخّل وكالة السي آي أيه في صناعة الأفلام وصل ذروته خلال الحرب الباردة حين كان الهدف صياغة السياسة الخارجية الأمريكية بشكل يستطيع كسب القلوب والعقول في الخارج، من خلال مركز أبحاث لمكافحة الأيديولوجية الشيوعية تابع للوكالة الاستخباراتية، مهمته التفاوض لشراء حقوق نصوص الروايات وتحويلها إلى أفلام تروّج للسياسة الأمريكية وتعزّز من صورة الحياة الأمريكية حول العالم”.

 

لطالما قدّم الأميركيون أنفسهم الى العالم من خلال السينما التقليدية أو من خلال المنصات الجديدة مثل “نتفليكس” وغيرها على أنّهم النموذج الأمثل في هذا العالم، وأنهم العرق المتفوّق، ويمتلكون العسكر الأكثر قوّة وتقدّمًا، ويقرنون هذه القوّة بامتلاك الأخلاق المُثلى التي تجعل من الجندي الأميركي أينما حلّ في هذا العالم، المُنقذ البطل الذي يضحي بنفسه لنجاة البشرية. هذا ما ركّزت عليه الانتاجات الأميركية طوال السنوات الماضية، فقدّمت الشخصيات العسكرية وأفراد المخابرات بشكل إيجابي في إطار دور بطولي لحماية الأمن القومي، وأبرزت الولايات المتحدة كقوة رائدة في مجال الابتكار والتقنيات الجديدة. بالمقابل، عملت على تشويه صورة العربي والمسلم أمام الجمهور وتقديمه دومًا بما يرسّخ صورة ذهنية واحدة تتلخص في العربي الإرهابي والهمجي والمنبهر أو المسلوب دائمًا الى الحضارة الغربية، والمسلم القاتل والجاهل المتخلّف الغارق في الملذات.

 

فيلم الخيال العلمي أرمجدون 1998 Armageddon، يروي قصّة “أفضل فريق في العالم” (للدلالة على التفوق الأميركي)، يتوجّه من تكساس إلى الفضاء لتدمير كويكب ضخم بحجم ولاية تكساس، يهدد الأرض بأسرها (يتحمل الأميركي القوي مسؤولية إنقاذ الأرض). ويُكلف الفريق بقيادة صاروخ إلى الفضاء، وزرع قنبلة نووية على النيزك. ولتحقيق الهدف، يواجه الفريق العديد من التحديات في طريقه إلى الفضاء، ويُصاب أحد أفراده بجروح خطرة (قيمة التضحية لأجل العالم)، لكنه في النهاية، يتمكن من الوصول إلى الفضاء وزرع القنبلة النووية على النيزك وتدميره. في نهاية الفيلم، يعود الفريق إلى الأرض سالمًا و‏تبتسم له الشعوب التي لم تكن واعية للأخطار التي تواجهها، ويُستقبل الفريق كالأبطال (سعادة وامتنان الشعوب لدور الولايات المتحدة).

 

 

 الذكاء بوجه السلاح

 

وعام 2013، أعلنت الأكاديمية الأمريكية للفنون السينمائية، في دورتها الخامسة والثمانين جوائز الأوسكار حيث فاز فيلم “Argo” لمخرجه “بن أفليك” بجائزة أفضل فيلم. وظهرت السيدة الأمريكية الأولى ميشال أوباما بشكل مفاجئ ضمن الحفل الـ 85 لتوزيع جوائز الأوسكار، من خلال بث مباشر من واشنطن معلنة فوز “أرغو” بجائزة أفضل فيلم. فما هي قصته؟

 

يوثّق الفيلم لـ”بطولات” وكالة الاستخبارات الأميركية (أميركا القوية)، في عملية إنقاذ “رهائن أمريكيين محتجزين” في سفارة الولايات المتحدة في طهران أيام الثورة الإيرانية عام 1979 (الجمهورية الاسلامية هي العدو للشعب الأميركي). وإرساءً لـ”القيم” الأميركية التي تسعى الدعاية السياسية لترويجها، والمتماهية مع “اميركا الانسانية والحريصة على حقوق الانسان”، فإن الفيلم هذا لا يبرز أي عنف أو قتيل أو دم. بل رأى النقّاد أنه ركّز على فكرة أن قوة الذكاء (التي تتمتع بها الولايات المتحدة) هي أفضل من المواجهة بقوة السلاح (في جبهة العدو غير الذكي)، مما يجعل فيلم ” آرغو” الإبن الشرعي لسياسة أوباما الجديدة.

 

 

البطولة والتضحية خلال الحروب

 

فيلم “انقاذ الجندي ريان” – Saving Private Ryan – 1998، هو واحد من أهم الأفلام الحربية، ويتحدّث عن تكليف الرئيس الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية في معركة (نورماندي) تحديدًا، كتيبة بقيادة الكابتن ميلر (توم هانكس) بالذهاب إلى قلب المعركة وراء خطوط العدو (قيمة البطولة). أمّا الهدف فهو البحث عن الجندي ريان (مات ديمون)، والحفاظ على سلامته حتى يعود إلى والدته التي فقدت ثلاثة من أبنائها في الحرب الدائرة، ولم يتبقَ لها سوى ريان (قيمة الانسانية). الكابتن ميلر يخوض في سبيل تحقيق الهدق العديد من المعارك أملًا في الوصول إلى الجندي المفقود (قيمة التضحية وتنفيذ المهام). يصوّر الفيلم مشاهد لفريق البحث والإنقاذ، وهم يتقدمون خلال الخطوط الأمامية ويواجهون تحديات صعبة ومعارك مستمرة في تركيز ضخم على قيم “الشجاعة والتضحية” للجندي الأميركي خلال الحرب لأجل خير البشرية.

 

 

الـDRONES ونقاش “الأضرار الجانبية” وأخلاقيات الحرب

 

يعتبر فيلم Eye in the sky، واحدًا من الأفلام التي تكتنز كمّا كبيرًا من النفاق الغربي، والدعاية المركّزة، وتكثيفًا حول فكرة أميركا المنقذة، الحريصة على حقوق الانسان، المضحية لأجل الخير، وأميركا الخير وكل من يواجهونها هم من الأشرار الارهابيين.

 

فيلم الدراما والإثارة الانجليزي الأمريكي صدر عام 2015، يتناول في ظاهره قضايا الأخلاق خلال الحروب سيّما مع استخدام التكتولوجيا عن بعد مثل الـDRONES أو الطائرات المسيّرة لقتل الهدف. وفي مصطلح يعيدنا مباشرة الى ما نسمعه اليوم من المسؤولين الأميركيين والبريطانيين للتغطية على حجم الضحايا المدنيين للحرب الدائرة في غزة، يستخدم القائمون على العمل الدرامي مُسمّى “الأضرار الجانبية” لنقاش أعداد القتلى المحتملين من المدنيين، نتيجة لقصف طائرة بدون طيار مسلّحة تابعة للقوات الجوية البريطانية ما يفترض أنهم إرهابيون سيقومون بتنفيذ عملية انتحارية في شارع مكتظ بالسكان، في كينيا. وتتم العملية بالتعاون مع وكالات المخابرات الأمريكية.

 

مع تقدم العملية، يثير اكتشاف وجود فتاة صغيرة تبيع الخبز في موقع الهجوم تساؤلات حول مدى قانونية وأخلاقية المواصلة في تنفيذ الضربة بين الضباط القائمين على العملية، ما يلزمهم بالعودة الى المستوى السياسي لأخذ الاذن باستكمال العملية. يظهر الفيلم مشاهد طويلة من النقاشات والتخبط، بما يقنع جمهور بـ”دقّة” الضربات الأميركية اتجاه من يصنّفونهم بالارهابيين، علمًا أن الواقع معكوس تمامًا، وهذا ما تنفيه أرقام مئات الشهداء في العراق وأفغانستان مثلًا.. وغيرها.

 

بالعودة الى مصطلح الأضرار الجانبية، فقد برز بشكل متكرر في تصريحات المسؤولين الأميركيين في اطار تبريرهم لسقوط ضحايا من المدنيين نتيجة اعتداءاتهم في أكثر من بلد، أو نتيجة الاعتداءات الاسرائيلية، ولم يكن آخرها، تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض للأمن القومي جون كيربي في 27/10/2013، عندما قال تعليقًا على ارتقاء أعداد كبيرة من الشهداء نتيجة الحرب الاسرائيلية على غزة: “منذ البداية أجرينا وسنواصل إجراء محادثات معهم بشأن الطريقة التي سيفعلون بها هذا، ولم نتردد في التعبير عن مخاوفنا بشأن الضحايا في صفوف المدنيين والأضرار الجانبية والنهج الذي ربما يختارونه، ذلك ما يمكن للأصدقاء فعله، ونحن أصدقاء”.

 

رئيس وزراء الكيان السابق “نفتالي بينيت” قال من جهته في مقابلة مع قناة “العربية” في 26 /1 /2024 ردًا على سؤال أيضًا حول العدد الكبير من الشهداء بالقصف الاسرائيلي على غزة: “إنها أضرار جانبية” في سبيل القضاء على حماس”، دون أن يجد حرجًا في القول إن “العدد أقل مما كان عليه في الحرب العالمية الثانية” وفق تعبيره.

 

في آخر حوار يتضمّنه الفيلم، يقول الضابط للمستشارة القانونية بكثير من الحزم والتأثر في آن، إنه لا يمكنها أن تعطيه دروسًا في أخلاقيات الحروب، وهو الذي حضر أكثر من مرّة تفجيرات انتحارية على الأرض، ورأى الأشلاء والدماء.

 

أمّا الجماهير التي تشاهد كثافة الدّم المراق اليوم في غزّة، فتقول لكل صانعي الدعاية الأميركية، لقد ذهب جزء كبير مما صنعتموه وروّجتم له خلال سنوات سدى.. فأكثر من 25 ألف مدني شهيد في غزّة، سيكونون شهودًا على زيف الدعاية التي مورست، وعلى السقوط الأخلاقي الأميركي الغربي الأكبر. لعلّنا يومًا ما نشهد نهضة فنية في جبهة المواجهة، تتصدى وتبدع في الدعاية المضادة القائمة على الصدق لا على الخداع.

 

ميساء مقدم

 

أ.ش

المصدر: العهد