أثار الموقف الغربي المؤيد بمجمله للعدوان الذي تشنه “اسرائيل” على غزة، والذي بات يقارن، من قبل احرار العالم، بما ارتكبته النازية من فظائع، لطخت بها جبين الانسانية الى الابد، العديد من التساؤلات، لدى الشعوب ونخبها الفكرية، وخاصة في العالمين العربي والاسلامي، حول الاسباب التي تدفع الغرب الى ان يتعامى بهذا الشكل الوقح عما يجري من ابادة جماعية في غزة، تنقلها فضائيات العالم بالصوت والصورة وعلى مدار الساعة، بشكل يسلب عن كل انسان اي مبرر للتعامي.
لا يمكن ان نبرر التعامي الغربي ازاء ما يجري في غزة اليوم، من ذبح للانسانية من الوريد الى الوريد، وباسلحة غربية عبر جسور لا تنقطع الى “اسرائيل”، بالجهل ازاء ما يجري من فظائع باتت تنقل على الاثير وبشكل مباشر، الامر الذي ينفي عامل الجهل، وهو ما دفع البعض للبحث عن السبب الحقيقي، الذي جعل الغرب وعلى راسه امريكا، يدوس على كل “شعاراته” و”مبادئه” بل وحتى “حضارته”، التي اعتبرها “الارقى” و “الاكثر عقلية وعلمية وانسانية”، قياسا بالحضارات الاخرى وخاصة الحضارة الاسلامية، بعد ان اقام الدنيا ولم يقعدها منذ قرون وحتى اليوم، بهذه الشعارات والمبادىء والحضارة الغربية.
لا يمكن ان يكون التعامل الغربي مع ما يجري من قتل ممنهج للاطفال والنساء، من قبل “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط” !!كما يدعي الغرب، هو وليد ردة الفعل ازاء ما جرى في السابع من اكتوبر الماضي، بل تعود جذور هذا التعامل غير الانساني والبعيد كل البعد عن الاخلاق والقيم الانسانية، الى “الحضار الغربية” ذاتها، التي كان يتغنى بها العديد من نخبنا حتى الامس القريب.
الدعم الغربي والامريكي الضخم للقاتل “الاسرائيلي” وبهذا الشكل العلني الوقح، كان سببا في عودة بعض نخبنا الى قراءة “التراث” الغربي، عبر قراءة الحياة الشخصية لرموزه، المتمثلين بالفلاسفة والمفكرين الغربيين، من امثال ديكارات وحتى سارتر، وكيفية نظرتهم الى الاخر وخاصة الاخر الاسلامي، حيث خرجت هذه النخب بحقيقة بشعة تعكس النظرة الدونية التي كان نظر اليها هؤلاء الفلاسفة بالنسبة للحضارة الاسلامية، فجميع هؤلاء الفلاسفة، ودون استثناء، ينظرون نظرة استعلائية للعرب والمسلمين وللاخر غير الغربي بشكل عام، بل هناك فلاسفة مثل كانت وهيغل، يشككون بالقدرت العقلية للانسان العربي والمسلم والاخر بشكل عام، فكل كلام هؤلاء الفلاسفة عن الاخلاق والقيم الانسانية، هو كلام خاص بالمجتمعات الغربية، ولا يعمم على المجتمعات الاخرى، فليس هناك فيلسوف معاصر عُرف بمواقفه “الانسانية والتحرر ” مثل سارتر، الا انه كان من اشرس المدافعين عن “اسرائيل”.
عندما تتشكل الحضارة الغربية من افكار الفلاسفة الغربيين هؤلاء، وعندما تكون الحضارة الاساس الذي يقام عليها كل النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعوب الغربية، عندها سيكون الجواب على السؤال المطروح اليوم عن “السبب الحقيقي وراء دعم الغرب لاسرائيل ومشاركتها في حملة الابادة الجماعية التي ترتكبها في غزة” سيكون واضحا، فالغرب نزع عن الانسان العربي والمسلم والاخر بشكل عام، انسانيته، فحضارته المبنية على افكار فلاسفته ومفكريه ونخبه، هم من نزعوا عن هذا الانسان انسانيته، فلم يعد قتله او تجويعه او تشريده، قضية يمكن ان تستثير عواطف الغرب، فالمقتول والجائع والمشرد، ليس انسانا كاملا، وفقا لمقاييس الحضارة الغربية، وهذا بالضبط هو الذي برر لامريكا وفرنسا والمانيا وبريطانيا و..، ارسال مئات الاف الاطنان من الاسلحة الفتاكة الى “اسرائيل” لقتل مليون ونصف المليون انسان فلسطيني، محاصرين في مدينة رفح، وهم يعلمون علم اليقين، ان اسلحتهم ستزهق ارواح هؤلاء الناس، فزعماء “اسرائيل” يعلنون جهارا نهارا، انهم سينفذون هجومهم على رفح، خلال ايام.
ان سبب مرور الغرب من امام 30 الف شهيد فلسطيني معظمهم من الاطفال والنساء، ومن امام 70 الف جريح تم بتر اطراف العديد منهم، وامام مدن سويت بالارض، ومن امام مستشفيات تحولت الى ثكنات عسكرية، ومن امام انسانية تذبح امام عينه، دون ان يرتد طرف لهذا العين، هو نفس السبب الذي دفع الغرب لاستعمار شعوب في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية، على مدى قرون، وارتكابه الفظائع بحق هذه الشعوب، دون ان يرتد له طرف، لان الحضارة الغربية، لا ترى اي قيمة لهذه الشعوب، بعد ان جردتها من انسانيتها.
اليوم علينا ان نعيد النظر الى الحضارة والافكار الغربية، وان لا نغتر بشعاراتها الرنانة، كما علينا ان نعيد النظر بحضارتنا، والا نشعر بالدونية عند الدفاع عنها، وان نتمسك بها وبشعارتها ومبادئها، فهي الحضارة الوحيدة التي حفظت للاانسان كرامته، حتى لو لم يكن مسلما، وهذه الحضارة هي التي دافعت وحافظت على حياة وكرامة، الملايين من البشر من مختلف الاديان والمذاهب، الذين عاشوا في احضان الحضارة الاسلامية، بامن وأمان، بينما الكيان الاسرائيلي، الذي يمثل وليدا شرعيا للحضارة الغربية، لم يكتف باغتصاب ارض الغير، بل يعلن جهارا نهارا، انه لا يتحمل وجود اي آخر غير اليهود في فلسطين المحتلة، وانه يسعى اما الى قتل او تشريد ما تبقى من الفلسطينيين في الاراضي المحتلة، لتكون خاصة لليهود، وسط تصفيق غربي حار، على هذا التجسيد العملي والدقيق لمبادىء حضارته، على يد الصهيونية.
أحمد محمد
أ.ش