النسيان… العوامل المؤثرة والعلاج

النسيان حقيقة موجودة ترافق كل إنسان مهما وهبه الله من قدرة على التركيز والتذكر. ولوجوده أهمية في حياة الإنسان. وهو حكمة ربانية

2024-10-07

يعد النسيان أو عدم التركيز من المشكلات التي يتعرض لها الإنسان يومياً في حياته العملية عامة، والطالب في حياته المدرسية خاصة، والنسيان ضمن حد معيّن يبقى في إطاره الطبيعي، أما إذا تعداه فعندئذٍ يصبح مشكلة وإذا زاد على حدِّه كثيراً يصبح حالة مرضية تستدعي المعالجة.

 

يمكننا تعريف النسيان بأنه عجز آني عن استحضار الماضي (ضعف في الذاكرة) أو وهن عقلي يعيق استذكار ما تم تعلّمه من قبل.

 

والنسيان حقيقة موجودة ترافق كل إنسان مهما وهبه الله من قدرة على التركيز والتذكر. ولوجوده أهمية في حياة الإنسان. وهو حكمة ربانية، إذ ما هو النفع من تذكّر حادثة مؤلمة باستمرار؟

 

أليس غياب ما يزعج الإنسان وينكّد عليه حياته أمراً مهماً في استمرارية الحياة، وفي تواصلها؟

 

في مثل هذه الحالات يبدو النسيان أمراً ضرورياً ومهماً.

 

والنسيان هو وجه غير مباشر من وجوه الذاكرة، وله مهمة إيجابية، وهو نوع من الحكمة الإنسانية ذات مهمتين متفائلتين متساويتين:

الأولى: طرح التفاصيل الباطلة التي لا فائدة منها ولا معنى لها.

 

والثانية: الاحتفاظ بتفاصيل التعلّم.

 

إلا أن النسيان يعتبر مشكلة تربوية. فكثيراً ما ينسى الإنسان أشياء يحتاج إليها أشد الحاجة.

 

وقد دلّت البحوث والدراسات التي أجريت على نسيان المقاطع التي لا معنى لها بعد حفظها جيداً، أن هذه المقاطع تُنسى بعد بضع ساعات، فبعد اليوم الأول يبدأ النسيان فعله ببطء، وبعد خمسة عشر يوماً يحتفظ المتعلم بما يتراوح بين ثلث ونصف ما تعلمه، وبعد شهر لا يبقى لدى المتعلم أكثر من الربع.

 

 

العوامل التي تتدخل في النسيان

 

طبيعة المادة ومدى وضوحها وفهمها وارتباطها بدوافع الفرد واتجاهاته واستخدامها مستقبلاً.

عمر الفرد وكفاءاته ونضجه.

طريقة حفظها والطريقة التي تم بوساطتها التعلّم.

إتقان التعلّم المبدئي للمادة.

الصلة الوثيقة بين ما يتعلمه الفرد وحاجاته الشخصية.

نوع النشاط اللاحق لتعلّم المادة.

تأثير الزمن الذي يفصل بين التعلّم والتذكّر.

الصحة الجسمية والنفسية للشخص وقت التعلّم ووقت الاسترجاع.

 

أسبابه

 

كثيراً ما نتعرّض لنسيان أسماء أشخاص، أو تفاصيل حادثة، أو معلومات، أو وصف مشهد.

 

وحدوث هذا النسيان مردّه إلى أننا لم نُعر ذلك أي اهتمام، بل جرى بصورة عَرَضيّة لا حصر فيها ولا تركيز.

 

لكن إذا افترضنا أن الإنسان حاضر بكليته إزاء الموضوع، وأن الإدراك قد تم بانطباع كاف وبيقظة وانتباه، وأنه لم يتعرض لصدمة انفعالية أو إصابة دماغية، أو مرض عقلي، فلماذا إذن يحدث النسيان؟

 

هناك ثلاث نظريات تحاول تعليل النسيان،

 

أولاً: نظرية الترك والضمور: ومفادها أن الخبرات السابقة تضعف آثارها، وتضمر نتيجة عدم استعمالها، كما تضمر العضلة إن تركت فترة طويلة من الزمن من دون استعمال.

 

ثانياً: نظرية التداخل والتعطيل: تقول هذه النظرية إن أوجه النشاط المختلفة والمتعاقبة التي يقوم بها الفرد، والتي تعرض عليه أثناء النهار من خلال تفاعله في المجتمع تتداخل في ما بينها، مما يؤدي إلى أن يطمس بعضها بعضاً، وتطغى حادثة على أخرى. ودليلها على ذلك أن النسيان في أثناء النوم يكون أبطأ منه في أثناء اليقظة.

 

كما لوحظ أن الأطفال يتذكرون بسهولة ووضوح ما يروى لهم من قصص قبل النوم، في حين لا يتذكرون تفاصيل ما يتلى عليهم من قصص أثناء النهار.

 

أما نظرية التعطيل فتقسم إلى التعطيل الرَّجعي والتعطيل البعدي.

 

التعطيل الرَّجعي

 

ويُقصد بالتعطيل الرجعي تداخل التعلّم اللاحق في التعلّم السابق، مما يؤدي إلى نسيان بعض ما تم تعلّمه، كالطالب الذي شرع مباشرة بعد حفظه قصيدة من الشعر مثلاً، ومن دون أن يأخذ لنفسه فترة من الراحة، في حفظ مادة أخرى، والنتيجة أن نسبة ما ينساه من الشعر تكون أكبر مما لو كان استراح مدة من الزمن بعد حفظ الشعر، مما يعني أن حفظ المادة الثانية تداخل مع حفظ الشعر فطمس عليه وساعد على نسيانه.

 

وأمام هذا الواقع يجب على الطالب ألا يبادر إلى تحصيل موضوع بعد آخر من دون أن يمر بوقت كاف من الراحة.

 

التعطيل البعدي

 

ويقصد به وفق ما دلّ عليه التجريب، أن التعلّم السابق قد يحرّف أو يعطّل التعلّم اللاحق، ويساعد أيضاً على نسيانه أو تشويهه وبقدر قليل أو كثير.

 

وبخصوص التداخل والتعطيل أكدت التجارب أنه كلما زاد التشابه بين المادتين السابقة واللاحقة في المعنى، أو المحتوى أو الشكل زادت درجة انطماس إحداهما بالأخرى.

وكلما اختلفتا كأن تكون مادة في الرياضيات وأخرى في التاريخ قلّت درجة نسيان كل منهما.

 

من أجل ذلك ينبغي على إدارة المدرسة مراعاة ذلك في ترتيب جداول الدروس.

 

إن التعطيل بنوعيه يكون ضعيف الأثر إن تم تعلم المادتين وفق شروط التعلم المثمر، لأن المواد التي تفهم وتحلل وتنظم، ومن ثم تحفظ يصعب نسيانها، ولا ينال منها التعطيل تالياً ما يناله من غيرها.

 

 

ثالثاً: نظرية الكبت

صاحبة هذه النظرية هي مدرسة التحليل من خلال دراستها للدوافع اللاشعورية، حيث تشير إلى أن نسيان المواعيد والتواريخ والأسماء والأحداث قد ينجم عن رغبات مكبوتة.

ويرى فرويد أننا ننسى عن طريق الكبت ما لا نهتم به، أو ما يزعجنا ويؤلمنا، خصوصاً ما يجرح كبرياءنا.

وقد دل التجريب على صدق هذه النظرية إلى حد كبير، وعلى أنها تفسر كثيراً من حالات النسيان لا كلها، فقد ننسى اسم شخص لأننا نكرهه، أو لأنه يذكرنا بشخص آخر نكرهه، أو نخافه، أو نغار منه.

ويندر أن ننسى اسم شخص نحبه ونفكر فيه. وقد يحب الطلاب مادة ولا ينسونها بسبب حبهم لمعلم المادة. وفي الواقع يمكن اعتبار النسيان وفق نظرية الكبت نسياناً بالتداخل، تداخل رغبة لا شعورية لا يفطن الفرد إلى وجودها، مع رغبة شعورية هي القصد الظاهر للفرد، كما هي الحال في زلات اللسان.

ومن النسيان ما يعود إلى أسباب لاواعية، وهي الرغبة في النسيان وفي عدم التذكر، وفي كثير من الحالات يتولد النسيان من العجز عن إعادة تكوين الماضي بسبب اختفاء نقاط الارتكاز التي يستند إليها.

أما أكثر حالات النسيان المدرسية، والتي يشكو منها الأهل، ويعانيها الطلاب، فتعود إلى عدم مراعاة شروط التعلّم الجيد.

 

النتائج التي توصلت إليها التجارب لظاهرة النسيان

1 – إن النسيان أثناء النهار أسرع منه أثناء النوم.

2 – إن التفاصيل التي لا تتخذ نمطاً أو شكلاً أو صيغة هي تفاصيل سرعان ما تُنسى، لذا من الواجب أن توضع المادة التعليمية في أحد هذه الأطر «قصة، جملة، صورة،…» حتى يسهل حفظها وتذكرها.

3 – للقلق تأثير ضار على الذاكرة، لأنه يشوّش الانتباه والتركيز، وبالتالي التذكّر.

4 – تتحسن الذاكرة ويتحسن التعلّم وفقاً لعملية الترابط. وهذا ما يجعلنا ندعو إلى جعل التعليم يتم عن طريق الإثارة ووسائل الإيضاح، ومن خلال عمليات الملاحظة والتجريب.

 

كيف نعالج النسيان؟

توجد مجموعتان من العوامل تساعد الفرد في معالجة آفة النسيان لديه، أو بالأحرى تيسّر له عملية الاسترجاع، وهي:

 

أولاً: العوامل الذاتية

1 – الاسترخاء وعدم إرهاق النفس والجسد، فعندما يعجز المرء عن استحضار الماضي، أو تذكّر اسم، أو تاريخ أو حادثة يستحسن عدم قهر النفس وعدم الإصرار على التذكّر، لأن ذلك لا ينفع ولا يؤدي إلى نتيجة.

ولهذا السبب ينصح المحلل النفسي بأن يستلقي المريض على أريكة، ويسترخي حتى يتمكن من إفساح المجال لخواطره وأفكاره بالتوارد.

2 – الاستعداد والتهيؤ ويمكن أن يكون هذا الاستعداد نفسياً، أو حركياً.

والاستعداد واضح في تأثيره على الطلاب، إذ إن نسبة ما ينساه الطلاب بعد الامتحان أكثر بكثير مما قبله.

3 – الإثارة والتحفّز، فكل عمل يبدأه الإنسان ويضطر لعدم إتمامه يخلق عنده نوعاً من التوتر، ولا يزول هذا التوتر إلا إذا أتم عمله، وأغلق دائرة نشاطه.

وهنا يمكن الاستفادة في مدارسنا من هذا الميل، وتقديم الدروس بشكل يثير اهتمام الطلاب، أو على هيئة مجموعة من الأسئلة، ومن ثم تحفيز الطلاب على التفتيش أو انتظار الأجوبة أو إكمالها عن طريق المراجع.

 

ثانياً: العوامل الموضوعية

تعرّف العوامل الموضوعية التي تساعد في عملية الاسترجاع بقوانين التداعي الثانوية وهي:

1 – قانون الترديد أو التكرار

كلما تتكرر رؤيتك للشخص أو يتكرر سماعك لبيت شعر مثلاً يسهل عليك تذكر هذا الشخص أو بيت الشعر هذا.

2 – قانون الحداثة

ومفاده أن الأمور التي تخبرها حديثاً تكون في متناول التذكر أكثر من السابقة عليها.

3 – قانون الأوّلية

أي إن الأحداث والوقائع التي تخبرها لأول مرة تكون أكثر رسوخاً في الذاكرة، ونسيانها أصعب من غيرها كأول رحلة قمت بها أو أول انطباع عن شخص معين.

4 – قانون الشدة

ويعني أن الأحداث العنيفة التي تترك أثراً كبيراً في النفس أو انفعالاً شديداً يكون استرجاعها أسهل من غيرها، كاليوم الذي تجرى فيه عملية جراحية أو إلقاء محاضرة أو لقاءً مهماً.

5 – قانون اكتمال الملابسات أو قانون الترابط

ويشير إلى أن الفرد يستطيع بوجوده في المجال نفسه الذي اكتسب فيه الذكرى أن يسترجع هذه الذكرى أكثر من أي مكان آخر. لهذا فإن إحضار الشاهد إلى مكان الجريمة، أو إعادة تمثيلها من قبل مرتكبها قد يثير في الذهن سلسلة جديدة من الذكريات المتصلة بالجريمة.

وقد دلت التجارب على أن إجراء الطلاب امتحانهم في المكان نفسه الذي تلقوا فيه دروسهم يؤدي إلى تحسين أدائهم.

باختصار، عندما يتذكر الإنسان تخضع ذكرياته لعوامل التحويل، والتكميل، والخلق، والتحوير، ونادراً جداً ما يستطيع الإنسان استرجاع الأحداث والوقائع كما خبرها من قبل.

لذا على المُرَبّي ألا يرهق ذاكرة الطالب بما لا يستطيع فهمه أو استيعابه، بل عليه تقديم المعلومات بأسلوب واضح مرتّب المعاني والأفكار.

وأن يساعد الطالب على ربط المعلومات المجرّدة بأمثلة محسوسة، مما يسهل عليه عمليات الانتباه والتركيز.

وعليه إعطاء الطالب منهجية الحفظ السليم.

كما ينبغي تعويد الطلاب على ترك مدة من الزمن بين المادة والأخرى. أو بين كل إعادة وأخرى حتى يتسنى للمادة المحفوظة أن تترسخ في الذهن.

وأيضاً العمل على إشراك أكبر عدد من الحواس، لأن ذلك يعين الطالب في عملية الحفظ والتعلم.

ومساعدة المتعلّم في الحفاظ على الحياة الصحية لديه عن طريق الاعتدال وعدم الإسراف في العمل والأكل والشرب، لأن ذلك يترك أثراً ظاهراً في عمل المذاكرة.

وأخيراً تعويد الطلاب على تنظيم المعلومات التي يكتسبونها باختصار كل ما يقرأونه، وتهيئة خلاصة تضم العناوين والأفكار الرئيسة لما نتعلم ونقرأ، ومن ثم تنسيق الخلاصات وترتيبها.

وكذلك تعويدهم على استخدام «الخرائط الذهنية» التي تساعدهم على عدم النسيان وتذكر المادة المحفوظة بسهولة.

المصدر: البلاغ