على أجنحة ملاك

قبسات من سيرة الاستشهادي صلاح محمد علي غندور " ملاك"

2024-04-27

قيام ذات فجر

 

تحت ألم جراح المستضعفين في الضاحية الجنوبية، وتحت أشعة الإمام الخميني (رض) اللاهبة، المجلَّلة بصفات الأولياء الروحية العالية، استفاقت حدقتا قلب “ملاك” على ترانيم الثلة الأولى من مجاهدي حزب الله وأصغت لتروي شغاف لب وجوهر صلاح، الإنسان، الخليفة.

 

اصطفى الله صلاحًا ليكون بلبلًا من بلابل هذه القافلة التي حمت للبنانيين عزتهم وأثلجت قلوبهم بدماء الأحرار. كان الدم يستنهض الدم والشهيد يسبق الشهداء، وفي هذه المرحلة بالذات كان اصطفاء الله لصلاح ظاهرًا،، لأن أحداثها أعطت له الكثير من التجارب والدروس والعبر، فهو عاش فيها يتدرج على يد الرعيل الأول من شهداء المقاومة الإسلامية ويذرف لظى الحسرات مع انبلاج فجر الاستشهاديين، يترصد دقائق أمور حياتهم وبنى أوصافهم الروحية العالية، وخلف هذا المشهد كانت ساحة الجهاد تملأ نصف مساحة لبنان من عاصمته حتّى أقصى حدوده الجنوبية وحول تخوم العاصمة الجنوبية كانت العراضة العسكرية الأطلسية تنذر باستهدافاتها كلّ شيء وفي الطليعة كانت تتهدّد نبتة المقاومة الباسقة بمستقبل مفتوح على كلّ مشؤوم.

 

شهد الشهيد صلاح هذه الفسيفساء المعادية وانضوى تحت لواء المدافعين عن الأرض بمواجهة الهجمة الأطلسية الصهيونية المزدوجة.
تفتح برعم الدحنون صلاح على أكثر من ثغر للدفاع عن عزة وكرامة الأمة، وصمم على أن يكون هو الـ ”ملاك” المنقذ بأشلائه بأسرها، وما أدرانا ما “ملاك”، هو إنسيّ طلّق الدنيا ثلاثًا وأسرج أشرعته نحو الأرض السليبة من بيروت إلى القدس الحبيبة.

 

مع الثلة الأولى واجه الهجمة الأطلسية بلقب جهادي هو “بلال” ومعها أيضًا ومع من بقي ينتظر اختار لقب “ملاك” ليُصلي بجسده المتفجر كلّ العربدات الصهيونية.
ولهذين اللقبين قصّة في حياة صلاح محمد علي غندور، فما هي يا ترى؟
للقصة مسيرة تختصر حياة الـ “ملاك” بكلّ دلالاتها المعبرة بدروس ذائبة بالعشق النوراني الآسر.

 

فبعدما التحق صلاح غندور كمجاهد أساسي في أمة حزب الله عام 1984 كلّف من قبل القيادة العسكرية بالعمل في سلاح الإشارة في بيروت فاختار لقب “بلال ” لعلاقة هذا الاسم بمؤذن رسول الله (ص). وكان نداء “بلال” يرشدك بشكل غريزي عفوي إلى بلبل يصدح على أجهزة الاتصال اللاسلكية، كان ذاك اليافع الحيي الأبيض الوجه، الذي كانت تحيته بلسمًا وسلامه قبلة ثلاثية على الوجنتين وفي الجبهة، وكانت هذه القبلات المميزة تحية وداع المجاهدين الذين كانوا يستشهدون الواحد تلو الآخر في معاركهم ضدّ الصهاينة والأطلسيين.

 

فقُبلة الجبهة في مفهوم المجاهدين هي قُبلة الشهادة، وصلاح وحده قبّل في فترة تقل عن الثلاث سنوات حوالي 40 شهيدًا من خاصة المقربين إليه في جباههم، وكان كلّ شهيد يسقط يتضاعف شوقٌ إلى معرفة سر صلاح المكتوم ويتحول السعي للفوز بوسام الشهادة إلى تصميم لافت في عزمه على تحقيقه جنوبًا بعدما طرد الأطلسيين شر طردة على يد الاستشهاديين وإخوانهم.

 

دعوة “صادق”

 

آخر حبات عنقود الإخوة الشهداء كان الشهيد الأشقر الملائكي غسان علوية “صادق” الذي يقول بعض المقربين، إن بينه وبين صلاح أسرارًا خاصة وعلاقات بقيت طي الكتمان حتّى اليوم في سرّيهما النفيسين.

 

كان الشهيد غسان أول من سهّد منام الشهيد صلاح وتيّمه بجذبة السياحة جنوبًا، وكان أيضًا آخر من أسرّ بإذن صلاح في بيروت أنه أصبح على قاب قوسين أو أدنى من فيض إلهي عظيم.

 

فمع استشهاد غسان داخل موقع برعشيت غداة عملية تحريره النوعية الأولى، دقت ساعة “ملاك” جنوبًا، فالكرامة الإلهية التي أفيضت على توأمه الجهادي يومها كانت من الدلالات بحيث إنها جذبته جنوبًا فورًا وإلى المحور ذاته الذي كان يعمل فيه الشهيد غسان.

 

استشهد غسان داخل الموقع دون أن يدركه أحد من المجاهدين، فدفن بكامل ثيابه العسكرية وعصبته الخضراء، دون تكفين، في روضة الشهيدين. صدعت هذه الصورة الخالصة بدلالاتها الحسينية، قلوب ثلة من المجاهدين الذين حضروا هذا المشهد في الدفن، فصممت هذه القلوب على اللحاق بقافلة الإمام الحسين (ع). وكان أكثر هؤلاء تصميما قلب “ملاك” وعيناه اللتان كانتا تذرفان الدمع الحار بصمت يعاهد الشهيد غسان على الظفر بما ناله واللحاق به ولو بعد حين.

ترك صلاح بيروت نهائيًّا وفي قلبه عهد وقسم على أن يدرج اسمه يومًا ما في لائحة الاستشهاديين.

 

يومها افتقد الخلان والأحباب صلاحًا الذي طواه الجنوب، فقد كان بلسما تملأ البسمة الدائمة ثغره وقلما تراه العيون عابسًا أو مقطب الجبين.

كنت تسأل عن صوت شجيّ يتفطر ألمًا في دعاء التوسل وكميل وفي مجالس العزاء وكنت تسأل عن العينين المطرقتين أرضًا والوجه المبادر لحنان العالم كله فيقال لك أصبح يعمل الآن في المقاومة الإسلامية.

 

يعود “ملاك” بعد أشهر في زيارة عمل سريعة إلى بيروت. تشم فيه رائحة عطر سكينة الأولياء، تفتش عنها في خباياه، فإذا هي رائحة التصميم على الشهادة الحمراء. ترى صلاحًا اليافع يكبر بسرعة تتجاوز حدود الزمن، تقرأ فيه رجاحة كهل لم يتجاوز بعد السابعة عشر ربيعا، فهو بات قليل الكلام آسر البسمة كثيرها، لطيف الروح، مستغرقًا في الملأ الأعلى وذا شفافية عالية في نظراته المطرقة دائمًا إلى مكان ما في الأفق البعيد.

 

في حلاوة دنان العسل

 

يلتحق صلاح بمحور بنت جبيل ويعمل في برعشيت في المنطقة التي حوت في تلك الأيام الاستشهاديَّين العظيمَين هيثم دبوق “عبد الرؤوف” بطل عملية تل النحاس الاستشهادية وعبد الله عطوي “الحر العاملي” بطل عملية بوابة فاطمة الاستشهادية في مركبا. ومنذ اللحظة الأولى التي بدأ العمل فيها هناك ضمن سلاح الإشارة لمدة لم تتجاوز الشهرين بدأ صلاح بالإفصاح عما كان يدور في خلده “أنا لم آت إلى هنا إلا للعمل كمقاتل في تشكيلات المقاومة، أريد الالتحاق بالعمليات كمقاتل”.

 

وكان للشهيد ما أراد خاصة بعدما تأمن بديله في الإشارة بسرعة، وبتوفيق إلهي أواخر العام 1986 وبدأت مرحلة إعداده من هذا التاريخ واختباره كمقاتل عبر تكليفه ببعض المهمات الجهادية تمهيدًا لتحديد قدراته ونقله إلى إحدى التشكيلات القتالية.

ويجتاح الفرح كلّ كيانه، فهو نجح في أول خطوة برحلة الألف ميل. أول ما قام به صلاح كان تغيير اسمه الجهادي من “بلال” إلى “ملاك”، وكأنه اختار لكل مرحلة عنوانها المتوافق مع دقته الشديدة بالتعاطي مع الأشياء ومع تكليف هذه المرحلة الشرعي وكأنه اختار هذا الاسم بالضبط ليشهد على المرحلة التي تلت والتي كانت خاتمتها مسكًا، فقد أصبح ذاهبًا آيبًا عاملًا عابدًا سائحًا نائحًا كالـ”ملاك” وأي “ملاك”.

 

أظهر “ملاك” قوة تحمل كبيرة ومثابرة وشجاعة غير عادية مضافًا إليها كفاءة قتالية عالية وقابلية أكيدة للتطور والتمرس في كافة فنون “حرب العصابات”، ولم تكد تمضي أشهر قليلة حتّى بدا للمسؤولين في غرفة عمليات المقاومة الإسلامية أن هذا الشاب يحمل مواصفات عالية ومميزة تؤهله لأن يصبح قائدًا في مدة قصيرة.

 

فقد برز “ملاك” مباشرة في التقييم، وكانت المجموعة التي يشارك معها تبرز بفضل إقدامه وعزيمته ومثابرته وجرأته النادرة في عمر كعمره وفي تجربة قصيرة كتجربته والتي وصلت به في مهماته الاستطلاعية إلى حد إحصاء الوحدات النارية الموجودة بحوزة الصهاينة وعملائهم في دورياتهم الراجلة؛ فكم من المرات كانت دوريات المشاة تمر على طريق يربض على جنباته “ملاك”، ومن ذلك ما كان يحدث معه في مهمات التنفيذ الميداني؛ فقد كان يحرص على الاقتراب من العدوّ حتّى يقتل رصاصه كله أكبر عدد ممكن من أفراد العدوّ، وتلك كانت ميزة فيه فقد كان يقتصد حتّى بالرصاص وغالبًا ما كان يعود من عملية هجومية وقد أطلق ( 15 إلى 20 ) رصاصة وذلك يدلل على عسكريته العالية في التسديد وعلى دقة التزامه بالحد الشرعي لاستهلاك الذخيرة.

 

وينقل الشهيد القائد خالد بزي “الحاج قاسم” أحد القادة الذين عايشوا “ملاكًا” طيلة رحلته الجهادية، أنه وفي إحدى المهمات على موقع بيت ياحون أصر على زرع العبوة تحت دشمة الحرس مباشرة. ويضحك الحاج قاسم وهو يقول: “كانت نظارته تلمع تحت ضوء القمر، وهذا مخالف تمامًا للأعراف العسكرية، إلا أن الشهيد اقترب من دشمة الحرس حتّى لامسها، وباطمئنان شديد زرع العبوة تحتها، قبل أن ينسحب”.

 

ويتابع أمير الميادين: “الطريف أن الحارس الذي زرعت العبوة تحته لم يلتفت أبدًا لهذه الحركة، وفي الصباح جاء الهدف وكان إحدى ملالات العدوّ وسرعان ما انفجرت العبوة فجن جنون الصهاينة وعملائهم وبدؤوا يمشطون المنطقة بكلّ ما يمتلكونه من أعيرة نارية، كلّ هذا كان يجري تحت نظر “ملاك” الرابض على بعد عشرات الأمتار مسترسلًا بالضحك وهو يقول الحمد لله، الحمد لله”.

 

 

وفي مرة أخرى كان من المفترض مهاجمة موقع بيت ياحون، وكان “ملاك” من ضمن المجموعة المهاجمة في طقس ثلجي قارس انتشر الإخوة حول الموقع بانتظار ساعة الصفر التي لم تكن قد أصبحت مقررة بعد فهناك حركة عسكرية معادية في المنطقة والمفروض الانتظار، كان “ملاك” وقائد العملية الشهيد الحاج قاسم أقرب المجاهدين للموقع، وكان الثلج يهطل بغزارة وجاءت ساعة الاستعداد النهائي للانقضاض على الهدف. يفتقد الحاج خالد بزي حركة “ملاك” فينظر نحوه، ليصعق بمشهد بقي يدق ذاكرته طويلًا، كان “ملاك” يغط في نومه باطمئنان، وغطاؤه طبقة من الثلج المتساقط، يهزه فيستفيق مبتسمًا “هل حان وقت التنفيذ؟” فيشير له الحاج قاسم بـ”نعم”، ينفض “ملاك” غطاء الثلج الذي لف جسمه، يمتشق سلاحه وينهض، ويسهم بشكل فاعل في إنجاح المهمّة.

 

يقول الشهيد الحاج قاسم: “رغم أنني أعرفه جيدًا منذ وقت طويل وأعرف شجاعته إلا أنني أكبرت فيه هذا الاطمئنان سيما وأن الرابض في مهمات الانقضاض يكون في حالة انتظار قلقة لأن كلّ شيء محتمل في هذه الساعة، وأخطر هذه الاحتمالات تمشيط مفاجئ أو حركة عسكرية مفاجئة تفشل كلّ العملية، إلا أن روح “ملاك” كانت تحلق في عالم آخر غير عالمنا لتعطينا حافزًا قويًّا للاطمئنان”.

 

ويستمر أمير الميادين الشهيد الحاج قاسم بسرد قبس من شهادته عن رفيق جهاده الشهيد ملاك فيقول: “كنا سننفذ عملية نوعية على دورية آلية صهيونية هي عبارة عن كمين محكم، وقد أعددنا للعملية بدقة شديدة واخترنا لمجموعة الهجوم الاستشهاديين “ملاك” و”الحر العاملي”. نُفذ الكمين واندفعت مجموعة الهجوم لتنفذ مهمتها، وفي اللحظة التي انقضت فيها على الهدف أخذ الاستشهادي “الحر العاملي” يعالج سيارة نصف مجنزرة من نوع “كمون كار” ويقترب منها ويصعد إلى متنها ويجهز على من كان فيها، فيما تعامل الاستشهادي “ملاك” مع دبابة “سنتوريون” وقفز إلى برجها وجهز قذيفة “لاو” وأطلقها من فتحة البرج إلى داخل الدبابة ثمّ قفز مبتعدًا بعدما لفحه حرق متوسط من أثر الانفجار. النتيجة كانت صدمة إيجابية جعلت كلّ أفراد مجموعة تنفيذ الكمين يتناغمون كالبنيان المرصوص من فتوة استشهاديَّين تميّزا بجرأة لا متناهية من فضل الله القوي القاهر، بعد أن باعاه جمجمتيهما قبل أن يقدما جسديهما الطاهرين بعد سنوات أشلاء متناثرة قربانًا في محضر الله”.

 

مع الشهيد “الحر العاملي ” كانت العلاقة خاصة ودخل الاستشهاديان سويًّا في دوريات عديدة وخدما في نفس الموقع مدة من الزمن مع الاستشهادي النوراني “هيثم دبوق” بطل عملية تل النحاس الاستشهادية والذي كان له تأثير كبير عليهما.

 

رجل المهمات الصعبة

 

من ملفه الشخصي يفيد أحد قادة المقاومة الإسلامية أن الشهيد “ملاكًا” ومنذ اليوم الأول لعمله في المقاومة كان يتميّز بروحيته الاستشهادية العالية. وكان الإخوة في منطقة عمله يكلفونه دائمًا بالمهمات الصعبة. وأثناء التحضير للعمليات الأكثر عمقًا وخطرًا كان الأخوة في غرفة عمليات المقاومة يضعون اسم الشهيد “ملاك” على رأس القائمة ويتطلعون إلى تكليفه في كلّ عملية قاسية تفترض الشراسة في التنفيذ ويكون له رأيه في تكتيكات العمليات حتّى باتوا يطلقون عليه اسم “رجل المهمات الصعبة”.

إشارة هنا إلى أن “ملاكًا” الذي عمل ككادر أساسي في مجال الاستطلاع الميداني دخل إلى عمق الشريط الحدودي مرات لا تعد ولا تحصى، وكان من مجاهدي المقاومة الإسلامية الذين أمسكوا السلك الإلكتروني على الحدود بين لبنان وفلسطين أكثر من مرة. وعلى ما شهد أمير الميادين الشهيد الحاج خالد بزي فإن الشهيد “ملاكًا” دخل إلى كلّ قرى الشريط الحدودي إلا مدينة بنت جبيل التي كان يسعى للفوز بإحدى المهمات التي تدخله إليها فكانت “بنت جبيل” آخر المطاف هي الحضن الذي ضم أشلاءه الطاهرة ونثرها عطرًا حانيًا على كلّ المحيط.

 

 

ومن ملفه الشخصي أيضًا يمكن الإشارة إلى ميزة لافتة فيه وهي أنه كان إذا ما عمل في المحور الشرقي مثلًا ونفذ عمله وأعطي مأذونية للراحة من العمل والتعب والسهر، كان يرفض الراحة ويذهب متسللًا إلى محور آخر يسأل عن عمل، عبوة مثلًا أو عملية أو استطلاع أو رصد أو خلافه، ويبدأ بالإلحاح على المسؤولين للسماح له بالمشاركة في هذا العمل. وكان المسؤولون في غرفة عمليات المقاومة الإسلامية يسألونه ألا تريد أن تترك دورًا لغيرك؟ فكان يرد أنا اسمي الجهادي “ملاك” وأريد أن أعمل أكثر من الـ”ملاك”. وهذه الميزة بقيت صفته طيلة حياته الجهادية حوالي التسع سنوات، فقد شارك في كلّ العمليات النوعية في قاطع بنت جبيل إلا تلك التي كانت تحدث في قلب بنت جبيل.

 

وقد تدرج “ملاك” خلال سنوات عمله التسع في المقاومة الإسلامية بتعلمه السريع ليشارك في جميع الأدوار والمهمات العسكرية، وليصبح ذا خبرة عسكرية عالية وقائدًا على المستوى الميداني.

 

ونتيجة لتطوره الكبير فقد رشحته قيادة المقاومة الإسلامية لدورة عسكرية عالية، فكان يحاول قدر الإمكان التملص منها للعودة إلى المواقع والمقاومة. وفي هذه الأثناء بدأ يكشف عن سره الدفين لقيادة المقاومة الإسلامية: “أتوجه من الإخوة الأعزاء في قيادة المقاومة الإسلامية بطلب قبول انتسابي إلى سرايا الاستشهاديين وفي أقرب فرصة ممكنة”.

 

منذ ذلك الوقت وضع “ملاك” نصب عينيه خطًّا واحدًا وهو السعي الجاد والحثيث لتنفيذ عملية استشهادية. وقد عارضته قيادة المقاومة الإسلامية كثيرًا ورفضت الموضوع من أساسه لأن عمل “ملاك” كان محوريًّا وأساسيًّا، إلا أنه كان يجدّ بالمقابل بطلب الموضوع بإلحاح حتّى لو اقتضى الأمر رفعه سرًّا إلى قيادة حزب الله وتوسيطها لإنجاح مسعاه، إلا أن القيادة بدورها طلبت منه نسيان الموضوع لأساسية دوره في قاطع عمليات بنت جبيل والأوسط سيما وأن جيلًا من المقاومين الصغار تربوا على يديه وصاروا يعرفون بأنه “جيل “ملاك” باتوا اليوم بأمس الحاجة إليه.

 

ولما رأى أن الموضوع غير متوفر الآن على الأقل فقد بدأ يشعر الجميع بأنه نسيه وعاد ينشغل بالأمور التي كان يسميها “روتينية”. وتلك الأعمال التي سماها “ملاك” بالروتينية كانت سلسلة النجاحات الرائعة في اختراق العمق وسلسلة التصفيات الأمنية لرموز العملاء الأمنيين وتلك العمليات النوعية الهامة التي كاد “ملاك” في إحداها أن يأسر جنديًّا صهيونيًّا لولا مبادرة جنديّ صهيوني آخر لقتل رفيقه الذي كان يولول محاولًا الفرار من يد الشهيد “ملاك”.

 

ربيع صلاح

 

بقي صلاح كذلك حتّى لمس بخبرته أن هناك تحضيرًا لعملية استشهادية فصمم على أن ينفذها مهما كلف الأمر.
طُلب منه استطلاع هدف ما دون أن يتم إخباره بموضوع وهدف الاستطلاع. لكنّه لمس بخبرته أن الهدف المطلوب رصده هو مركز قيادة اللواء الغربي في بنت جبيل المعروف بـ “مركز الـ 17” واستطلاع بعض الأمور المحيطة به، مقدمةً لعملية استشهادية.

 

عندما رفع تقريره الميداني طالب بأن يكون هو منفذ العملية. ولكن المسؤولين قالوا له إن من سينفذ هو شخص آخر. فأصر بقوة أن يتقدّم هو إلى العملية رافضًا كلّ الحجج والأعذار التي اختلقوها من قبيل “أن ظروف نجاح العملية ميدانيًّا من رصد واستطلاع وأمور أخرى لم تكن لتتم لولا عمله الذي هيأ الظروف الكبيرة للنجاح”، فلم يقتنع وأصرّ قائلًا: “من المستحيل أن يكون المنفذ غيري”.

 

وذهب إلى القيادة مباشرة ليوسطها. وبعد جهد ونقاش اقتنعت القيادة برأيه وتمت الموافقة على اختياره للتنفيذ، فصارت الدنيا ترقص كلها في عينيه، ليس لأنها تلك التي طلقها ثلاثًا بل لأن بعض متاعها، كسيارة التنفيذ والمواد المتفجرة التي وضعت فيها، هو الذي سيحقق له الحلم والأمل.

كانت أيام الأسبوع الأخير أيام وداع للـ”ملاك”، كان فرحًا دائم البسمة، يمازح الجميع ويفيض عليهم بكلّ خزين حنانه وحبه الذي ما خبأه يومًا في سره؛ فقد رفرفت أجنحة الشهادة فوق قلبه وطفح هذا القلب بالنورالآسر وأفاض ما فيه من أسرار حبّ وحنان.

 

طلب صلاح أن يشارك إخوة الجهاد هذه الفرحة فرتب لهم حفل غداء في الطبيعة. كانت مظلة شهر نيسان عز فصل الربيع والخضرة التي تزينه إشعارًا لحلول فصل ربيع عمر الـ”ملاك” ووداع رفاق الدرب وداع عودة ولقاء فما أكثر من حضر حفل الغداء هذا من شهداء أحياء ينتظرون أو التحقوا بقافلة النور الكربلائية بعد استشهاد “ملاك”.

لم يلتفت أحد إلى سر هذا الغداء إلا بعد سماعهم جميعًا بنبأ العملية الاستشهادية التي خمن غالبية الموجودين أن أحد الحاضرين هو “فارسها “. مرت ساعات من التثبت إلى أن ارتفعت شمس اسم “ملاك”.

 

وللخاصة، كالشهيد الحاج خالد بزي ممن كان لهم دور مباشر في التحضير للعملية، فقد كان الوداع وداع القلوب اللاهبة التي تفطرت ألمًا على استئذان صاحب البسمة الآسرة والقلب الكبير للالتحاق.

كان دور “ملاك” في هذا الوداع العمل على إدخال الصبر والسلوان على قلوب الأحبة، بمرح لم يخالطه حزن، بل كان يفيض نورًا علويًّا يزيدهم تعلقًا بمن رغب إليه “ملاك” وذاب في عشقه وفجّر نفسه بشوقه للقائه.

 

يذكر أمير الميادين الشهيد الحاج خالد بزي، وهو أحد الذين شاركوا “ملاكًا” طيلة حياته الجهادية وخطط للعملية وعاش معه اللحظات الأخيرة، أن الشهيد كان سيتوجه إلى عملية تفترض في الجانب الأول مراعاة الساتر الأمني بدقة، فكان من المفروض أن يحلق ”ملاك” لحيته. ويتابع الشهيد الحاج قاسم، الذي كان له شرف حمل سلاح “ملاك” الشخصي: “أخذت ماكينة الحلاقة الكهربائية لأخفّف له لحيته فانهمرت دموعي وأنا أتخيل رحيل “ملاك” عني بعد عشر سنين من العِشرة اليومية، فأخذ “ملاك” يلطف الجو ويمسح بيده الطاهرة الدموع المتهاطلة، ثمّ أطلق نكتة، أتبعها بطرفة يذكرني فيها إلى آخر عمري باللحظة التي كنا فيها، ذكرني بفيلم إيراني (يتحدث عن عملية استطلاع استشهادية لثلاثة من أفراد الحرس الثوري الإسلامي داخل خطوط العدو، يحلق لهم القائد لحاهم على نفس الطريقة فيبدأون بالنظر إلى أشكالهم الغريبة بلا لحى ويستغرقون بالضحك).

 

ويتابع: “قال “ملاك” أتذكر فيلم زورق باتّجاه الشاطئ (وهو الفيلم الإيراني السالف الذكر). وصيتي لك أن تتذكر هذه اللحظة كلما حضرته”.
بقي “ملاك” مستغرقًا في مناجاة فرح بفعل نجاح مساعيه وقبول دعواته التي بكى لها لياليَ وأسحارًا طويلة وسعى لأجلها منذ اللحظة الأولى لعمله في المقاومة الإسلامية.

وكان قد كتب وصيته منذ عودته من أول مهمّة استطلاعية للهدف الذي نفذ ضدّه عمليته الاستشهادية، فالعارف ينظر بنور الله.

 

 

اغتسل غسل الشهادة وصلى ركعتي شكر لله، وذكر في آخر سجدة منهما “يا ولي العافية، أسألك العفو والعافية، عافية الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين”. استغرب أحد إخوته وسأله “أنت منطلق بعد قليل إلى عملية استشهادية وتسأل الله عافية الدنيا؟”، فرد عليه العارف المراقب “ملاك”: “وهل تأمن فتنة الدنيا مسافة طرفة عين واحدة؟ لا زلت على خطر عظيم من شرورها وغرورها”. ثمّ تلا الوصية وسجلها. ثمّ طلب سماع شريط كاسيت لتلاوة قرآنية بصوت المقرئ الشيخ محمد صديق المنشاوي، الذي كان ملاك يعشق صوته، وطلب جهاز لاسلكي يدوي ليدخله معه وسلاحًا من الأسلحة التي غنمها المجاهدون من إحدى العمليات النوعية تحسبًا لاعتراضه من قبل أحد أفراد أو دوريات العدو. ثمّ جلس ينتظر الإذن إلى أن جاءت اللحظة الموعودة، فغمره فرح عظيم وصلى على محمد وآل محمد ثلاثًا ثمّ توجه نحو الشرق يزور الإمام الحسين(ع) زيارة مختصرة أخيرة، ثمّ التفت إلى الأخوة الذين أشرفوا على العملية ليودعهم الوداع الأخير ويوصيهم بالمقاومة وبخط ولاية الفقيه راجيًا الدعاء له بالتوفيق والنجاح، وانطلق يردّد ما كان قد سمعه قبل قليل من آيات كريمة من سورة “ق”:
{وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ * من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}.

 

وكما ظهر في شريط الفيديو فقد انتظر القافلة على بعد أمتار بمواجهة خمس نقاط حراسة لم تكن تعني له شيئًا، بل كان الهدف يعني له كلّ شيء. كان يتابع عبر جهاز اللاسلكي اليدوي الوضع لحظة بلحظة مع الإخوة في غرفة عمليات المقاومة الإسلامية، منتظرًا مدة لا بأس بها من الزمن كانت كافية لتزلزل أكبر الشجعان، إلا أنها كانت لـ”ملاك” لحظات أنس لأنها كانت لحظات التجلي التام في قلبه لأنوار محمد وآل محمد (ص)، وانقشاع كلّ الحجب التي سلخها “ملاك” عنه غداة صلاة الليل والتهجد في الأسحار وغداة حياته منذ كان صغيرًا في كنف والده يعلمه حبّ خير الورى إلى اللحظة التي قيل له فيها “قم ولبِّ النداء القدسي”.

 

وفي الثواني القليلة التي انطلق فيها بسرعة كبيرة نحو الهدف لتفجيره بنفسه أخذ جهاز اللاسلكي، وبهدوء واطمئنان أطلق صرخة “الله أكبر” سمعها كلّ من كان ينصت إلى أجهزة اللاسلكي، ثمّ أتبعها بنداء “يا أبا عبد الله الحسين” لتختلط بانفجار هائل هز كلّ القرى المحيطة التي خرجت بأجمعها تكبر لـ”ملاك”.

 

كان اصطحابه للجهاز اللاسلكي عربون وفاء وحب لسلاح الإشارة الذي أوصله إلى شهد وعسل المقاومة، وكان الانفجار الهائل رسالة شكر إلى كلّ شهداء ومجاهدي المقاومة الإسلامية الذين خالطتهم روحه المشرقة وقربانًا لضحكة عيون شعبه، وكان جسده الذي استحال أُوارًا على العدوّ عنوانًا لفجر حرية قادم على معتقلات الأسر يمسح على رؤوس الأيامى والأيتام، وصارت أشلاء الـ”ملاك” بين صرخة ” الله أكبر” ونداء “يا أبا عبد الله الحسين(ع)” والانفجار الهائل مرصدًا ومنارًا لآلاف الاستشهاديين الذين التحقوا بدمه المتصل جرحًا مع نداء الإمام الحسين (ع) وواعيته في كربلاء “هل من ناصر ينصرني” ليصدح في كلّ الملأ “لبيك يا حسين (ع)”.

 

بعد شهر عاد “ملاك” إلى الدنيا ليزور أخاه في أحد المنامات، فاستغرب مبصره عودته إلى الدنيا التي طلقها على سنّة إمامه علي (ع) ثلاثًا وسأله: ألم تستشهد في العملية؟ فرد عليه الشهيد بالإيجاب وبأنه في غاية الاشتياق للعودة آلاف المرات إلى هذه الدنيا بشرط واحد وهو أن تكون عودته لتكرار العمل الاستشهادي آلاف المرات.

“ملاك” في خطبة المتقين

 

كان “ملاك” مصداقًا للمتقين الذين وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لهمام العابد في خطبته التي تسمّى بـ”خطبة المتقين”، حيث كانت هذه الخطبة منحوتة في قلبه المتفطر حبًّا وعشقًا للباري سبحانه وتعالى وصارت شعار حياته التي كانت كلها جهادًا وسيرًا وسلوكًا إلى الله المعشوق.

فالمتقون كما عبر عنهم الأمير(ع) في خطبته: ”هم أهل الفضائل منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع”.

 

و”ملاك” كان مصداقًا للصدق في الحديث والحزم في إنكار المنكر، وكان يتميّز بمناقبه الأخلاقية العالية، من خلال البشاشة الدائمة والكلمة الطيبة فضلًا عن التقديس العالي للوالدين ولكبار السن. وثمة ميزة اشتهر بها “ملاك” في مجال العلاقات الإنسانية ضمن إخوة الجهاد وبين الناس وهي البذل الواجب والمستحب؛ فقبل زواجه كان يخصص قسمًا كبيرًا من راتبه الشخصي لمساعدة المجاهدين المتزوجين وأجرى هذا العمل كسنّة يستنّ بها الإخوة في المحاور وبقي كذلك لفترة تزيد على ثلاث سنين، وكان إضافة إلى ذلك يتصدق باستمرار وبشكل يومي بمبلغ بسيط، وبقيت تلك الصفة تلازمه حتّى استشهاده، حيث كان يسمي الصدقة اليومية بـ”التأمين الشخصي ضدّ البلاء”، وقد تصدق بكلّ ما كان في جيبه عشية الرحلة العظيمة التي كان يزمع السفر فيها إلى الملكوت الأعلى.

 

وكان إذا ما افتقد أحد الإخوة لفترة تزيد عن الأسبوع، يسأل ويفتش عنه، وغالبًا ما كان يحمل إليه هدية متواضعة، فإذا ما كان هذا الأخ مريضًا في مستشفى كان “ملاك” يواسيه، وما أكثر الإخوة الذين يؤكدون أن “ملاكًا” ورغم إجازاته القليلة كان يترك عائلته وأولاده ليسهر في المستشفى على أحد الإخوة المرضى.

ومن صفاته الملازمة أنه كان يمشي مطرقًا نحو الأرض ببصره، ويظهر انزعاجه بوضوح إذا ما طرقت مسامعه غيبة، أو خدشها فضول الكلام.

 

لقد أوقف أسماعه على العلم النافع، وكان يطالب دائمًا بدروس عن الآخرة. وكان الإمام الخميني (قد) والإمام الخامنئي (دام ظله) أحب العالمين إلى قلبه، ومنذ الصغر حيث عاش في الإمارات إبان انتصار الثورة الإسلامية في إيران، كان يتسلل بعيدًا عن إخوته وأبويه ليغلق باب غرفة الجلوس على نفسه ويشغّل التلفزيون على قناة الجمهورية الإسلامية ويجلس أمام الشاشة ساعة أو أكثر ليمتع نظره بوجه الإمام الخميني (قد) النوراني.

 

كبر “ملاك” مع الإمام المقدس، وكانت شجاعة الإمام ومواقفه تسعر نار القوّة في قلب الـ”ملاك”. وفي اليوم الذي أعلنت فيه وفاة الإمام انفجرت براكين اللوعة من داخله وشوهد “ملاك” مع المفجوعين يبكي بألم وحرقة يفضحهما صوته العالي ووجيب قلبه الذي كان يطلق ولأول مرة ربما كلمة “آخ”.

 

وبقي الإمام يمثل له حتّى آخر حياته رمز الاستقامة والثبات ومرجع الروح الفاحصة عن أقصر طريق للانعتاق، فلم يكن “ملاك” يقوم بأي عمل إلا وكان شغفه قويًّا لمعرفة رأي الإمام الخميني (قد) به، وكان يسأل دائمًا عن أفضل أسلوب لتهذيب النفس ومراقبتها برأي الإمام المقدس.

وقد وصفت علاقته بالإمام الخميني المقدس(قد) بأنها علاقة روحية أولها عشق وأوسطها مراقبة وآخرها نور.

 

وعن خليفته المفدى الإمام الخامنئي(دام ظله) كان ”ملاك” يقول: ”إن ولاية السيد القائد (الخامنئي) وخلافته للإمام المقدس، تكاد لولا بعض الشروط تتطابق مع خلافة علي (ع) لرسول الله (ص)؛ من التحق بها نجا ومن تخلف عنها ضل وهوى”.

 

وكان يعبر عن مرجعية الإمام الخامنئي المفدى، والتي طرحت بعد وفاة المقدس الأراكي (قد)، باجتماع النورين.

 

وفي مجال تهذيب النفس ينقل العديدون ممن كان لهم صلة بالشهيد “ملاك” تدريسًا أو جهادًا أنه كان من الواصلين ومن الكادحين في تهذيب النفس وله في ذلك أسرار وربما أكثر كان يضن بها على أقرب المقربين إليه.

 

ومع كلّ حبه للناس فقد كان ينسلّ من بينهم إذا ما أحس بضيق أو بتعب أو بإساءة منهم ليجلس بين يدي الله عز وجل معتزلًا عنهم يدعو لهم. وكان يختلي بعيدًا عن العيون كلما أتعبته الدنيا يشكوها لخالقها ويتوسل إليه أن يعيذه من فتنها. واشتهر عنه أنه غالبًا ما كان يصوم في أيام الشدة بنية دفع البلاء عن المسلمين. وثمة فترة تعرضت فيها المقاومة الإسلامية لضغوط شديدة وحصار يشهد الإخوة الذين عايشوه أنه بقي فيها صائمًا طوال هذه الفترة التي استمرت لشهور.

وطالما كان في الجنة كمن رآها يفرح لها وسرعان ما يطرق مسترسلًا في حزن عميق إذا ما سمع آيات النار والعذاب فكأنه يسمع زفيرها.

 

 

وقد التزم برنامجًا عباديًّا وسلوكيًّا واظب عليه حتّى استشهاده، فكان طريق سيره إلى الله وسلوكه لسبيل السعادة والنعيم المقيم من أبرز مميزاته البساطة والمداومة عليه حتّى صار من تفاصيل حياته. ويمكن اختصار برنامجه بالتالي:

1. مواظبته على الطهارة والوضوء الدائم.
2. مواظبته على الصلاة في أول وقتها بهدوء واطمئنان مهما بلغ الأمر ومهما كانت الأخطار.
3. المواظبة على الصيام المستحب.
4. المواظبة على تلاوة القرآن تلاوة حزينة وبتدبر، والمداومة على سماع القرآن عن الكاسيت.
5. المواظبة على قراءة الأدعية التالية “كميل – التوسل – المناجاة الشعبانية – دعاء أبي حمزة الثمالي – العهد – الندبة”.
6. المواظبة على قراءة زيارة عاشوراء والزيارة الجامعة.
7. المواظبة على صلاة الجماعة وحبه لها ودعوته لإقامتها.
8. المواظبة على صلاة الليل، وإذا لم يتيسر الوقت لذلك، صلاة نافلة الصبح، فضلًا عن نافلتي المغرب والعشاء.
9. كثرة السجود لله وخاصة في الليل.
10. اتّخاذه لوقت محدّد من الليل للخلوة والتأمل ومحاسبة النفس، وعادة ما تكون زاوية في غرفة ما أو على سطح أحد البيوت.
11. سؤاله ومراقبته الدائمة للصفات الشيطانية الخفية التي تعترض برنامج السالك.
12. حذره وخوفه الدائم من الوقوع في الرياء أو العجب، وكان دائمًا ما يستعمل في هذا المجال عبارة الإمام الخميني (قد): الشرك الخفي.
13. شدة المحافظة على أسرار عبادته الخاصة وإذا ما تكلم أو أشار فبهدف التنبيه أو التحذير.
14. سعيه لتحصيل كامل صفات المتقين والتي أوردها الإمام أمير المؤمنين (ع) لهمام في خطبة المتقين حتّى وصل به الأمر إلى أن يمثل مصداق هذه الخطبة، ومن يطالع الصفات الواردة فيها يرَ “ملاكًا” ببسمته الآسرة التي كانت تستهزئ بالدنيا وتدل على مستوى اطمئنانه العالي.
15. مطالعته المستمرة للمواضيع والكتب الأخلاقية والعرفانية وخاصة كتاب “الأربعون حديثًا” للإمام الخميني (قد)، كتب الشهيد دستغيب وعلى الأخص كتب: الذنوب الكبيرة – النفس المطمئنة – القلب السليم – المعاد – وصلاة الخاشعين، الذي كان زاده في الحضر والسفر، فضلًا عن المواضيع الأخلاقية التي كانت تنشر في مجلة بقية الله التي كان يحرص دائمًا على قراءتها واقتنائها.

16. التزامه الدقيق بالحكم الشرعي مهما كانت الأمور التي تعرض أمامه تافهة ومن ذلك سعيه قدر الإمكان للاقتصاد بالرصاص الذي كان يطلقه في العمليات مهما كانت خطورتها.

17. عدم استثقاله أي تكليف حتّى ولو كان تكليفًا يفوق طاقته.
18. صبره الذي كانت تعجز عنه الجبال، وفي ذلك قصص لا تعد ولا تحصى عن مسيرة حياته وجهاده. فإذا وقع عليه البلاء يكون كمن وقع عليه الرخاء فلا يتغير حتّى تحس أنه في البلاء أغنى الأغنياء وأصح الأصحاء وأقوى الأقوياء ولولا عمره الذي كتب له، لم يكن ليهنأ إلا بالملأ الأعلى فكلّ من عاشره في حياته كان يقول: “كان جسده معنا يخالطنا يلاطفنا ولكننا لم نكن نحس بروحه التي كانت غالبًا في العلياء”.

 

وكان تعظيم الله وجبروته في نفس “ملاك” مؤشرًا إلى أن كلّ العالم لم يكن يعني له شيئًا إلا إذا كان طريقًا لاكتساب الأجر والثواب، وغير ذلك كان لا يعادل شيئًا في عقيدة “ملاك”، فعندما حدثت حرب الخليج الثانية وبدأت مفاوضات مدريد (1990 – 1991 ) كان يضحك على المتساقطين ويقول: “إن هذه التسوية لا يلزمها إلا عمليات استشهادية والرد عليها و”خربطتها” لا يكون إلا كذلك”.

 

وصدق “ملاك” فلم تسقط تسوية مدريد إلا العمليات الاستشهادية، وكان اجتماع الكفر كله في شرم الشيخ قبل شهر واحد من الذكرى السنوية الأولى لعملية بنت جبيل الاستشهادية التي نفذها “ملاك” إيذانًا لأحد إخوانه بأن جموع خيبر القرن العشرين لن يسقطها إلا أحد العلويين من إخوة “ملاك”، وكان القمر “عمار حمود” آخر الشاهدين على فاتحة سقوط الكفر تحت أشلاء الاستشهاديين، كما كان فاتح العمليات الاستشهادية الشهيد أحمد قصير يؤسس عنوان الصراع القائم بين المقاومة الإسلامية ومشروع الكيان الغاصب “إسرائيل”.

 

هذا “ملاك” يلبي نداء حج الجهاد يأتي من كلّ فج عميق، يقطع المسافة والحواجز بين كفرملكي وبنت جبيل وبين بنت جبيل والقدس وبين القدس وأعلى عليين، بجسد للعشق تفجر، فمن كملاك؟

 

أ.ش

المصدر: العهد