فی ذكرى استشهاده

الإمام علي الهادي (ع) ومنهج البقاء الحر في زمن التضييق

ان الإمام علي الهادي (ع) لم يسمح للضغط أن ينتج قسوة داخلية. كثير من الناس، حين يحاصرون، يتحولون إلى أشخاص متوترين، حادين، فاقدين للتوازن الأخلاقي. الإمام، على العكس، ازداد قربًا من الناس، واحتواءً لهم، وفهمًا لمعاناتهم. وكأن سيرته تقول بوضوح: لا تجعل الظلم يعيد تشكيل روحك...

ليس كل صراع يدار بالصوت العالي، ولا كل مواجهة تكسب بالمواجهة المباشرة. بعض المعارك تخاض بهدوءٍ شديد، وبوعيٍ طويل النفس، وبقدرة استثنائية على حماية الجوهر دون أن يتحول الإنسان إلى نسخة مشوهة من خصمه. في هذا الإطار، يبرز الإمام علي الهادي (ع) بوصفه واحدًا من أكثر أئمة أهل البيت (ع) التصاقًا بواقع الإنسان المحاصر، لا بوصفه رمزًا تاريخيًا فقط، بل نموذجًا عمليًا لإدارة الحياة تحت الضغط.

 

ولد الإمام علي الهادي (ع) في مرحلة كانت السلطة العباسية قد بدأت فيها الانتقال من البطش الصريح إلى السيطرة الممنهجة على الوعي والسلوك. زمن تدار فيه الهيمنة بهدوء، وتفرض فيه القيود دون إعلان. هذه البداية الزمنية لم تكن تفصيلًا عابرًا، بل شكلت الخلفية العامة لمسيرته، وجعلت حضوره لاحقًا انعكاسًا واعيًا لطبيعة الصراع، لا رد فعلٍ متأخر عليه.

 

عاش الإمام (ع) في مناخ سياسي خانق، حيث المراقبة الدائمة، والتضييق الاجتماعي، ومحاولات تفريغ الرموز الدينية من مضمونها الحقيقي. مشهد يبدو بعيدًا في الزمن، لكنه قريب جدًا من واقعنا المعاصر؛ حيث يعيش كثيرون اليوم تحت ضغط الخوف الوظيفي، والقلق المعيشي، والرقابة الاجتماعية، والانقسام الحاد في المواقف.

 

اللافت في سيرة الإمام علي الهادي (ع) أنه لم يتعامل مع هذا الواقع بمنطق الانسحاب، ولا بمنطق الصدام المستنزف. قدم خيارًا ثالثًا نادرًا: إدارة الوجود بوعي، لا بردة فعل. لم يسمح للسلطة أن تفرض عليه شكل المواجهة، ولم يسمح للضغط أن يغير من ثباته الأخلاقي والروحي.

 

في زمن كانت فيه السلطة تريد من الإمام أن يكون إما صامتًا بلا أثر، أو متورطًا في صدام يقضى عليه سريعًا، اختار أن يكون مؤثرًا بلا ضجيج. هذا الخيار بحد ذاته درس معاصر لكل إنسان يشعر اليوم أنه محاصر داخل دائرة ضيقة من الخيارات، سواء في العمل، أو المجتمع، أو حتى داخل العائلة.

 

أحد أبرز ملامح هذا النهج هو فهم الإمام لمعنى الكرامة. الكرامة عنده لم تكن شعارًا يرفع، بل سلوكًا يمارس. تظهر في ضبط النفس، في اختيار التوقيت، في معرفة متى يكون الكلام واجبًا، ومتى يكون الصمت أكثر تأثيرًا. لم تكن حكمته تراجعًا، بل قراءة دقيقة للزمان والمكان.

 

كثيرون اليوم يخلطون بين الصبر والاستسلام، وبين الحكمة والخوف. الإمام الهادي (ع) قدم تفريقًا عمليًا بين هذه المفاهيم. صبره لم يكن قبولًا بالظلم، بل حفاظًا على خط الرسالة من التآكل. وحكمته لم تكن تبريرًا للواقع، بل إدارة ذكية له دون الذوبان فيه.

 

ورغم التضييق، لم يتوقف الإمام عن بناء الإنسان. حين ضيقت المنابر، تحولت العلاقة الفردية إلى مساحة وعي. وحين أغلقت الساحات العامة، فتحت العقول. هذا الدرس بالغ الأهمية اليوم، حيث يعتقد البعض أن غياب المنصات يعني غياب التأثير، بينما الحقيقة أن التأثير الأعمق يبدأ حين تُزرع القناعة، لا حين يرفع الصوت فقط.

 

الأهم من ذلك، أن الإمام علي الهادي (ع) لم يسمح للضغط أن ينتج قسوة داخلية. كثير من الناس، حين يحاصرون، يتحولون إلى أشخاص متوترين، حادين، فاقدين للتوازن الأخلاقي. الإمام، على العكس، ازداد قربًا من الناس، واحتواءً لهم، وفهمًا لمعاناتهم. وكأن سيرته تقول بوضوح: لا تجعل الظلم يعيد تشكيل روحك.

 

في واقعنا الحالي، حيث تتراكم الخيبات، وتشتد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، تصبح هذه الرسالة أكثر إلحاحًا. الحفاظ على الأخلاق في زمن القهر ليس ترفًا، بل شكل من أشكال المقاومة الهادئة.

 

كما يقدم الإمام درسًا في ترتيب الأولويات. لم ينشغل بالرد على كل استفزاز، ولم يهدر طاقته في معارك جانبية. كان يعرف أن المعركة الحقيقية هي معركة الوعي، والحفاظ على هوية الإنسان الشيعي بوصفها التزامًا أخلاقيًا وسلوكيًا، لا مجرد انتماء لفظي.

 

يمكن القول إن الإمام علي الهادي (ع) هو إمام الإنسان الذي يعيش تحت الضغط دون أن ينكسر. إمام من لا يملك رفاهية الصدام المباشر، لكنه يرفض الذوبان. إمام من يبحث عن توازن صعب بين السلامة والصدق، بين الحكمة والوضوح.

 

في زمن يشعر فيه كثيرون أنهم محاصرون داخل “سامراء” خاصة بهم في الوظيفة، أو الرأي، أو المستقبل تأتي سيرة الإمام الهادي (ع) لتقدم إجابة عملية: كيف تعيش حرًّا من الداخل، ثابتًا على المبدأ، دون أن تحرق نفسك أو تضيع رسالتك.

 

المصدر: وكالات