كلما كانت الحرب أقسى كان النصر أبهى‎

النموذج الذي يشاهده العالم كله، ساعة بساعة، هو لب العالم الجديد المنتظر، والذي يتكون بمتانة مهما طالت الحرب أو قصرت، وكلما كانت الحرب أقسى وأشد، كلما كان طعم الانتصار ألذ، ليوازي صدى الاندحار والانهيار.

2024-02-05

يونس عودة

 

لم يعد النقاش في مراكز البحث والاستشراف المشهود لها في العالم، يدور حول صحة، وآفاق، واحتمالية “قيام عالم جديد”، على أنقاض العالم الذي كان للإمبريالية ومشتقاتها من العنصرية، بل ما هي الصورة التي سيرسو عليها العالم الآتي، ومن سيكون لها الباع والقدرة على أن تحتلّ مكانتها الطبيعية، وفق منظومة ثقافية متكاملة، أخلاقيًّا، وإنسانيًّا، وبالتالي سياسيًّا، تحميها مقدرات القوّة.

 

بلا شكّ أن القديم العاجز المتخم بالشرور، سيعمد إلى كلّ الأساليب اللاأخلاقية، بما فيها القتل الممنهج، في حرب يمكن أن تسمّى “حرب البقاء”، وهو الذي نشهده اليوم على أرض فلسطين من خلال حرب الإبادة المستمرّة ضدّ الشعب الفلسطيني، من دون أن يدرك قادة الكيان الصهيوني نهاية المسار الحتمي القائم على الكراهية والحقد اللامحدود. فهؤلاء، يعيشون الاعتقاد الواهم بأن عمليات القتل والقصف والتدمير يمكن أن ترمم مفاهيم ثقافية وأمنية وعسكرية، وهي في أصلها سياسية مصنعة خلافًا للطبيعة، ومن دون أن يدركوا ما سيكون خلف الأفق، جراء المكابرة لأنهم يعلمون أن المنظومة التي ترعرعت عليها “إسرائيل” برعاية الغرب الشوفيني قد تحطمت إلى غير رجعة، ولم يعد بالإمكان إعادة تجميع الركام للترميم.

 

لقد أسقط يوم 7 أكتوبر المجيد بكلّ مفاعيله الصورة المتخيلة التي كونها الغرب المتوحش عن الكيان الصهيوني بمده بكلّ وسائل القتل والدعاية المضللة، بأن “إسرائيل” هذه قوة إقليمية لا منافس لها، بل قوة عالمية، وأنه الراعي لكل ما تقوم به، حتى وصل به الأمر إلى اعتبار هذا الكيان امتدادًا طبيعيًّا له، ولذلك فإنه عمد إلى ترسيخ الصورة التي أرادها للكيان في أذهان العرب أولًا، أن “إسرائيل” قادرة على فعل ما تريد وأين تشاء وساعة تشاء، مع نصائح صورية بتهدئة الوحشية أو الاقلال منها مقابل ” الحفاظ على تفوقها الاستراتيجي” عبر مدها بكلّ سلاح حديث، يزيد من جشعها إلى القتل وبمزيد من الأموال لاستجلاب مستوطنين جدد لضخهم في جيش القتلة.

 

من الواضح وضوح الشمس أن المقاومة الفلسطينية الآتية من رحم الشعب الفلسطيني على أرضه، وليس كما المستوطنين المستجلبين من كلّ أصقاع الأرض، تمكّنت بعزيمة فولاذية، مرفودة بأنصار الحق والحقيقة في محور المقاومة من خلال جبهات الإسناد والاستنزاف للعدو المشترك، وعدو الإنسانيّة، من تبديد صورة الكيان المتخيلة غربيًّا في أنها باتت ومنذ زمن قادرة على حماية مكوناتها أمنيًّا وثقافيًّا، وتحطيم العنجهية، واستفاق الجمهور الموهوم على كابوس سيبقى حاضرًا، أن جيشه ودولته ليسا القوّة المغروسة في الأذهان، بل هما مرتبطان بشكل عضوي ومطلق بأميركا خصوصًا والغرب العنصري عمومًا، رغم المكابرة المتواصلة فصولًا، مصحوبة بفظائع القتل والإبادة، ومن ضمن محاولات إخفاء مشاعر الإحباط واليأس لدى العامة، وانعدام الثقة بالرؤوس الحامية.

 

لقد جربت كلّ حكومات الكيان منذ إنشائه على أرض فلسطين بقرار إمبريالي عنصري، كلّ وسائل القتل والترويع لكسب حجر الزاوية للكيان وهو الأمن للمستوطنين المستجلبين بالإغراء، إلا أن الحجر تناثر وبددته ريح المقاومة، وبقي عنصر الخوف وارتفع منسوبه إلى الأعلى لأن المستوطنين أدركوا في أعماقهم بعد التجربة المذلة لجيشهم أنّهم محتلون، والمحتلّ لا يمكنه التملك والسطو على الحقوق بمرور الزمن.

 

يقول د. تومر فريسكو، الباحث في جامعة رايخمان إن هذه الحرب مختلفة بكلّ المقاييس، فهي حرب طويلة ومؤلمة بدأت بضربة مفاجئة ولن تخرج منها “إسرائيل” بفرحة عارمة، بل بإحباط، وهو ما يؤكده البحث الذي أجراه مركز الصحة النفسية في “معهد روبين الأكاديمي”، الذي أظهر أن 45% من السكان البالغين في “إسرائيل” أصيبوا بالاكتئاب بعد السابع من أكتوبر، وأن 30 – 43% أصبحوا يعانون بنسب متفاوتة من الخوف وضيق ما بعد الصدمة، ما يعني أن ما يقارب نصف سكان “إسرائيل” يعاني من مستويات مرضية من الاكتئاب.

باختصار، إن النموذج الذي يشاهده العالم كله، ساعة بساعة، هو لب العالم الجديد المنتظر، والذي يتكون بمتانة مهما طالت الحرب أو قصرت، وكلما كانت الحرب أقسى وأشد، كلما كان طعم الانتصار ألذ، ليوازي صدى الاندحار والانهيار.

 

أ.ش

المصدر: العهد